هل للعراق هوية حقيقية؟

 

 

د.سامان شالي

العراق، أمة لها تاريخ يمتد لآلاف السنين، هي المكان الذي ولدت فيه الحضارات وتفاعلت الثقافات باستمرار. هوية العراق عبارة عن نسيج معقد منسوج من التنوع العرقي والتعددية الدينية والإرث التاريخي والروح الدائمة لشعبها. يتطلب فهم الهوية العراقية استكشاف جذورها القديمة وتأثير الاستعمار ونضالات القرنين العشرين والحادي والعشرين ومرونة مجتمعاتها المتنوعة.

 

إن السؤال حول ما إذا كان العراق يتمتع بهوية “حقيقية” هو سؤال معقد، نظراً لتاريخه وثقافاته وشعبه المتنوع. إن العراق، كدولة قومية حديثة، هو بلد شاب نسبياً، ولد من حدود استعمارية تجاهلت في كثير من الأحيان النسيج الاجتماعي المعقد للمنطقة. ومع ذلك، تكمن داخل حدوده حضارة غنية وقديمة أثرت بشكل عميق على تاريخ العالم. لتحديد ما إذا كان العراق يتمتع بهوية “حقيقية”، يجب علينا استكشاف العناصر التي تحدد هذه الهوية والنظر في تأثير الأحداث التاريخية والتنوع الثقافي والتحديات الحديثة.

 

الجذور التاريخية والثقافية

تمتد جذور العراق التاريخية إلى بلاد ما بين النهرين القديمة، مهد الحضارة، حيث نشأت أولى المدن ونظم الكتابة والقوانين. ويشكل هذا التراث جزءاً كبيراً مما يمكن اعتباره هوية العراق الحقيقية. إن تراث سومر وآكاد وبابل وآشور ليس مجرد آثار تاريخية، بل إنه جزء لا يتجزأ من الوعي الثقافي للشعب العراقي. وهذه الهوية القديمة تشكل مصدراً للفخر وعاملاً موحداً، حتى في أمة منقسمة.

 

كما يلعب الإسلام دوراً حاسماً في تحديد هوية العراق. فمنذ الفتوحات العربية الإسلامية في القرن السابع، كان الإسلام جزءاً مركزياً من الحياة العراقية، حيث شكل هياكلها الاجتماعية والثقافية والسياسية. وكانت بغداد ذات يوم قلب العصر الذهبي الإسلامي، وهي فترة مزدهرة علمياً وفلسفياً وثقافياً. ويشكل هذا التراث الإسلامي عنصراً حاسماً في الهوية العراقية، التي يتقاسمها المسلمون السنة والشيعةوغيرهما من الأقليات، مثل المسيحيين واليزيديين  وكاكائيين. ومع ذلك، فإن الانقسام الطائفي غالباً ما يعقد الوحدة الوطنية.

 

التنوع العرقي والديني

إن التنوع العرقي والديني من السمات المميزة للعراق. فالسكان عبارة عن فسيفساء من العرب والأكراد والتركمان والآشوريين وغيرهم من الأقليات. وهذا التنوع سلاح ذو حدين: فهو مصدر للثراء الثقافي ولكنه أيضاً سبب للتوتر والصراع. فالكرد، على سبيل المثال، يتمتعون بهوية مميزة ويسعون منذ فترة طويلة إلى الحكم الذاتي. وفي الوقت نفسه، ينقسم السكان العرب على أسس سنية وشيعية. أما الأقليات الدينية، مثل المسيحيين واليزيديين وكاكائيين، فلديها هوياتها الخاصة، وكثيراً ما تشعر بالتهميش داخل السياق العراقي الأوسع.

 

ويثير هذا التنوع السؤال التالي: هل يمكن لأمة ذات هويات مختلفة أن تمتلك هوية “حقيقية” واحدة؟ قد يزعم البعض أن الهوية الحقيقية للعراق تكمن في تعدديتها، وفي التعايش بين الثقافات والأديان المختلفة داخل أمة واحدة. وقد يرى آخرون هذا التنوع باعتباره عقبة أمام تشكيل هوية وطنية متماسكة، وخاصة في مواجهة الصراعات السياسية والطائفية.

 

تأثير الاستعمار والدولة الحديثة

لقد تشكلت الدولة العراقية الحديثة، التي تأسست في أعقاب الحرب العالمية الأولى، من خلال الطموحات الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية. لقد تجاهلت الحدود المصطنعة التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916 التكوين العرقي والديني للمنطقة، مما زرع بذور الصراع في المستقبل. وقد مهد إنشاء مملكة العراق في عام 1921 تحت الانتداب البريطاني الطريق لقرن من عدم الاستقرار السياسي الذي اتسم بالانقلابات والثورات والحروب. وقد أدى فرض الحكم على النمط الغربي إلى تصادمه مع النسيج الاجتماعي المعقد في العراق، مما أدى إلى توترات استمرت حتى يومنا هذا.

 

كما ترك إرث الاستعمار العراق يكافح من أجل هويته الوطنية. كانت فكرة الدولة العراقية جديدة نسبيًا، وغالبًا ما وجدت السكان المتنوعون داخل حدودها أنفسهم على خلاف مع بعضهم البعض. ومع ذلك، كانت هناك أيضًا فترات من الوحدة، وخاصة أثناء الحركات القومية في منتصف القرن العشرين، عندما سعى العراقيون إلى تحديد هويتهم الخاصة بشكل مستقل عن التأثيرات الاستعمارية. وقد حاول صعود حزب البعث وحكم صدام حسين اللاحق صياغة هوية عراقية متماسكة. ومع ذلك، غالبًا ما اعتمدت هذه الجهود على القمع واستبعاد مجموعات معينة، وخاصة الأكراد والعرب الشيعة.

 

التحديات المعاصرة والقدرة على الصمود

لقد كان أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين مضطربين بشكل خاص بالنسبة للعراق. فقد أثرت الحرب بين إيران والعراق، وحرب الخليج، والغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بشكل عميق على الهوية العراقية. ولم تتسبب هذه الصراعات في معاناة هائلة فحسب، بل أدت أيضًا إلى تفاقم الانقسامات داخل المجتمع العراقي. لقد خلف العنف الطائفي والنزوح وتدمير التراث الثقافي ندوبًا عميقة على نفسية الأمة.

 

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه التحديات، أظهر الشعب العراقي قدرة ملحوظة على الصمود. ويتجاوز الشعور المتزايد بالهوية الوطنية الخطوط العرقية والطائفية، وخاصة بين جيل الشباب. واكتسبت الحركات من أجل الإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية زخمًا، مما يعكس الرغبة في التغلب على الانقسامات الماضية. وقد سلطت احتجاجات عام 2019، المعروفة باسم حركة تشرين، الضوء على تطلعات العديد من العراقيين إلى دولة تحتضن جميع مواطنيها، بغض النظر عن العرق أو الدين.

 

إن العراقيين بحاجة إلى مؤتمر حول التسامح والحوار من أجل العراق. وسوف يجسد هذا المؤتمر الوحدة الوطنية والهوية العراقية والالتزام بالدستور العراقي كمظلة لحماية حقوق الإنسان لجميع العراقيين. وسوف يشعر الجميع بالفخر بهويتهم العراقية. وإلا فإننا سنذهب إلى الانقسامات الطائفية والدينية.

 

الخاتمة

الهوية العراقية مفهوم معقد ومتطور تشكله تاريخ غني وثقافات متنوعة وتحديات مستمرة. وهي تجمع بين التقاليد القديمة والتطلعات الحديثة نحو التكامل والانفصال. وعلى الرغم من التحديات، يواصل العراقيون السعي إلى مستقبل تتعايش فيه الهويات المتنوعة في سلام وازدهار. ومع تقدم العراق إلى الأمام، ستتطور الهوية العراقية بلا شك، مما يعكس مرونة وإبداع وتصميم شعبه. وبدلا من البحث عن سرد واحد، يمكن فهم هوية العراق على أفضل وجه باعتبارها نسيجا معقدا يستمر في التطور مع تنقل شعبه عبر تحديات القرن الحادي والعشرين.

قد يعجبك ايضا