د. سيّار الجميل
جلال الخياط من أبرز الكتاب والنقاد العراقيين المحدثين الذين ساهموا مساهمات جادة في اغناء الثقافة العربية المعاصرة بعديد من مؤلفاته العلمية واطروحاته في النقد الأدبي والتي ساهم بها على امتداد أكثر من ثلاثين سنة، لا سيما في الشعر الحديث، حيث كانت له اسهاماته الاكاديمية الرصينة المشهودة التي تجاوزت حقل التدريس والاشراف العلمي على رسائل الدراسات العليا الى التأليف والنشر وإعداد البحوث في العديد من الجامعات العربية والبريطانية.
سيرته ومسلسل حياته
ولد الدكتور جلال الخياط في مدينة الموصل في العام 1932 وابوه مدرّس وأديب معروف في الاوساط الثقافية الموصلية، وهو من آل الخياط المعروفين في المدينة.. وبعد انتقال عائلته الى العاصمة بغداد، دخل جلال دار المعلمين العالية (كلية التربية حاليا) التي تخرج فيها بامتياز في العام 1955 ليعّين مدرسا لمادة اللغة العربية وآدابها في الثانويات العراقية، ويعتبر اغلب خريجي تلك الدار العالية من أبرز المبدعين العراقيين في عقدي الاربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين اذ كان أبرز شعراء الحداثة العراقية واهم كتاب العراق المعروفين قد تخّرجوا في تلك الدار الرصينة.
في عام 1961 منحت وزارة التربية هذا المدرس الشاب بعثة دراسية لنيل شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي من جامعة كيمبرج البريطانية. فسافر اليها وهناك تتلمذ على أيدي كبار المستشرقين البريطانيين من أمثال: هوبكنز وسارجنت وآربري وغيرهم. وتعالج الأطروحة التي تقدّم بها لنيل الدكتوراه (مفهوم الحداثة في الشعر العراقي). وبعد عودته من كيمبرج، انضم جلال الى قسم اللغة العربية العريق في كلية الآداب بجامعة بغداد حيث شرع يدرس الأدب العربي الحديث والنقد الادبي الى جانب اعلام العراق من الاساتذة المرموقين في عالم اللغة والأدب، ومنهم الدكاترة: علي جواد الطاهر وابراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعناد غزوان ويوسف عز الدين وغيرهم كثير.
اصداراته واعماله
اصدر جلال الخياط مجموعة متنوعة من الكتب النقدية والتحقيقات العلمية التي كان من ابرزها: الشعر العراقي الحر: مرحلة وتطور (1970)، والتكسّب بالشعر (1970)، والشعر والزمن (1975)، والمثال والتحّول في شعر المتنبي وحياته (1977)، والأصول الدرامية في الشعر العربي (1982)، واحمد الصافي النجفي: عالم حر (1987).. الى جانب العشرات من المقالات والبحوث التي نشرها في (الدوريات الأدبية التي تصدر في العالم العربي). وقد نشر اثناء اقامته في بريطانيا في السنوات الأخيرة عددا من المقالات النقدية في الصحف العربية منها: جريدة «الشرق الأوسط» واتسمّت بكونها مادة جادة في الأدب الحديث. وقد خلّف الرجل عددا من المخطوطات المكتوبة بخط يده والتي كان ينوي نشرها مستقبلا من بينها : مسودة كتاب ضخم يعالج ظاهرة نادرة في تاريخ الشعر، وكان سيحمل عنوان «الجنون في الشعر»، وهو الذي يمثّل كما قال معتّزا به: ثمرة جهود مضنية بذلها على مدى سنوات طوال، ولكنه لم ينشره ويحقق امنياته. وبهذه المناسبة، اتمنى على أحد مقربّيه او طلبته ان يعتني عناية فائقة بهذا العمل من اجل ان يرى النور.
جلال كما عرفته
لقد التقيت بالرجل في آخر لقاء معه في شهر اكتوبر الماضي 2004 اثناء زيارتي لندن وبعد سنوات طوال من لقاءات لي معه في بغداد واندهشت لأحواله اذ لا يمكن ان يعرفه حتى اصدقاءه لما كان قد اصابه من الوهن والمرض ولكنني لم اشعره بذلك ابدا، وقد جلسنا طويلا معا خصوصا وانه كان يقّدم بعض المحاضرات في الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية في لندن والتي اشرف انا ايضا على بعض اطروحات الدراسات العليا فيها، وقد تبادلنا الحديث معا وكان فيه ذكريات مكان اصابنا فيه الشقاء فخرجنا منه اسوة بغيرنا من المثقفين العراقيين نحو عالم من نوع آخر ربما يكون ملاذا واكثر أمنا ولكنه قاسيا واكثر توحشّا..
وبعد وفاته وحيدًا حزينًا في المغترب لا بد ان نذكر بعض ما في ذاكرتي عنه خصوصا واننا تحادثنا عن اغتراب المثقفين وهجرة العلماء والادباء من العراق، وانها ظاهرة غريبة النوع، وبالأخص عندما يموت اولئك الناس واحدا بعد الاخر في الشتات ويدفنون في غير ترابهم.. وها هو اجده كما كان جالسا ينظر في الفراغ وهو يعدّد اسماء العراقيين الذين لفهم تراب الشتات بكل قسوة!
ان رحيل جلال الخياط (ابو الغيث)، الناقد العراقي المعروف لم يكن مفاجئا لي حسب، بل كان مفاجئا لكل الذين عرفوه وصادقوه او قرأوا مقالاته الطريفة التي كان ينشرها في لندن بعد خروجه من العراق اثناء الحكم السابق. وكانت الطريقة التي دفن فيها في لندن بعيدا عن اصدقائه الكثر تثير الالم كالعادة في اغتراب اللامعين العراقيين عن ترابهم حتى في موتهم، وهم كثر من شعراء وادباء وعلماء ونقاد.. ان كلّ من عرف جلال الخياط لم يزل يذكر جانبا من جوانبه اللامعة، فهو صاحب مجالسة غنية بالحكايات والطرائف والاشعار التي كان يحفظها على ظهر قلب، فهو موسوعة أدبية متنقلة وطبعا لا يمكن ان يعيش اي مبدع عراقي من دون خصوم، فهو يعرف لماذا يخاصمونه ولكنهم لا يعرفون لماذا يخاصمونه، فقط لشعورهم بالنقص ازائه!
كان يشعر بالاضطهاد دوما عندما كان يعيش في العراق اذ يرى بأن امكاناته تستحق اعترافا كبيرا خصوصا وانه قد انتج عشرات الكتب والدراسات الرصينة وهذا النوع من البشر يتألم بصمت قاتل من دون ان يعرب عن خفاياه الا للمقربين منه.. وهو يدرك – كما اعتقد – بأن المبدعين العراقيين كانوا محاربين دوما.. لكنه كان انسانا حساسا تعتمل عاطفته الى ابلغ الحدود وله عنفوانه الداخلي الذي باستطاعته ان يكبت اضطهاده في اعماقه!
كان رجلا مليئا بالأسرار ولا يريد ان يبوح بها أو ان يطلع احدا عليها، اذ تميز بأنه كان كتوما، ولا يريد الافصاح عما يريد. لقد هجر العراق الى بريطانيا لأنه لم يعد – كما قال لي – ان يتقبل الاختناق على مهل ليس لأن راتبه لم يعد يكفيه وليست له القدرة كمثقف عالي المستوى ان يمد يده الى احد وهو عزيز القوم وقد ترّدى الوضع الاكاديمي في العراق وقت ذاك، لكنه لم يعد يطيق تحّمل اوزار العهد السابق بعد خنق الحريات والاستهانة بالمثقفين وتهميش الاكاديميين، ولم يعد يتّقبل المشاركة في تخريج علماء مزّورين لهم ارتباطاتهم بالسلطة او بالحزب وما اكثر اولئك الذين منحوا درجات علمية عالية في الجامعات العراقية وقد نالوا المراتب العلمية زيفا وبهتانا بسبب ارتباطاتهم السياسية ومواقعهم ورتبهم الحزبية في حزب السلطة ! وكان يفّكر دوما بمستقبل ولده الوحيد في العراق. كان يريد ان يرجع الى العراق ليرى عائلته الصغيرة التي تركها وكان المرض قد اخذ يمتد في جسمه المنهك وهو ينتقل من مستشفى الى آخر. كان يرى ان الجنون قد ضرب اطنابه في كل مرفق من مرافق الحياة العراقية!