دلزار اسماعيل رسول
كانت السماء مكفهرة…تنبيء باقتراب عاصفة هوجاء. بينما السحب تتراكم على بعضها البعض، مدوية بين الحين و الاخر، مجلجلة الارض ببريقها،و هي تضرب الارض بقسوة و غضب…بينما البيشمركة الثلاثة ، يعاندون أجسامهم المتعبة، و كلما خطوا خطوة، ترجوا أن يلحقوها بأخرى ، فالجوع يمزق أوصالهم…فلم يدخل أجوافهم شيء منذ يومين.
ظلوا يسيرون بلا هوادة بعد رجوعهم من معركة غير متكافئة ، بملابسهم المرقعة و احذيتهم المهترئة، فيحسون بالماء يتسرب اليه بين الفينة و الاخرى، من غير أن يتمكنوا من فعل شيء حيال ذلك، وهم يحثون الخطى وسط طبيعة خلابة و قطرات الندى تتساقط على الاشجار من حواليهم فتحدث بصوتها خدرا ينسيهم أحزانهم و مصابهم، غير عارفين مصيرهم و غير آبهين بأقدارهم، ما سوف سيؤول اليه أمرهم في لاحق الايام….ثلاثة من رجال البيشمركة يواصلون المسير بخطى وئيدة ، تاركين عائلاتهم و أبناءهم لايام مجهولة تحت سطوة حاكم ظالم لا يسلم من سطوته و جبروته حتى أقرب المقربين منه…… لاهثين وراء أمل قد يكون بعيدا أو خيالا جميلا رسمته لهم إيمانهم بمبدئهم ، و أيضا كفاحهم لرد الظلم و الطغيان الذي يواجهونه من عدوهم الذي يريد طمس هويتهم الوطنية….. رسموا صورة مضيئة لحياة هانئة لشعب مظلوم….. يناضلون لكي يرى الحرية و الرغد، ولا يدرون ، هل سيكتب لهم القدر ، أن يروا ذلك اليوم أو لا…و إن كتب أن يأتي ذلك اليوم، ترى هل سيُثَمّن كفاحهم ، اذا سالت دماءهم على هذه الجبال، وهل سيذهب سدىً، و ياترى هل سيجني ثمار هذه الايام و تلكم المعاناة شخوص أُخَرْ، لا يمتون بذلك بصلة، و يا ترى هل سيكونون بحجم تلكم التضحية و الفداء، و يا ترى كيف سيكتب عنهم الاجيال اللاحقة ، اذا تسنم مناصب السلطة ، من ينهب خيراتها ، و يسرق قوت شعبها….الاف الاسئلة كانت تراود مخيلتهم وهم يحثون الخطى، مضيفة اليهم المزيد من العذاب و المعاناة، ولم يكونوا يعرفوا اذا كان تلكم الكم من الاسئلة ، هي بسبب هلوسة الجوع و التعب، أم أنها نابعة من صميم إحساس عفوي ناتج من فطرة نقية صافية، ينبئهم بالمستقبل….
قال أكبرهم…سوف نواجه عاصفة هوجاء، إن لم نجد مأوىً يأوينا هذه الليلة …فسوف نموت من البرد القارص……….أستمروا في ميشهم الوئيد، مترنحين في مشيتهم ، حتى لاح في الافق خيمة وحيدة قائمة بجانب نهر جاري، حوله مجموعة من الماشية ….
أقتربوا بحذر شديد، و سلموا من وراء خِدر الخيمة بصوت عال، فرد عليهم صوت رجولي خشن شجي : و عليكم السلام، ثم اردف بنبرة غاضبة : ماذا تريدون ؟
فأجابه مسئولهم قائلاً : من فضلك هل نستطيع الدخول الى خيمتك رجاءاً…
فقال الرجل على مضض : أدخلوا…
فرأوا رجلا كبير الجثة قابعاً في وسط الخيمة ، وقد تربع على فراش وثير ، و كلتا يديه على وسادتين بجانبيه، و أمراة في متوسط عمرها متسمرة بجانب باب الخيمة ، يلفها سواد ثيابها ، ولكن بياض روحها يطغى على سمار وجهها ، فبريقها يشع للناظر لها من أول وهلة….
قال المسؤول : سوف يسوء الاحوال الجوية كثيرا هذه الليلة ، وليس لدينا مأوى ، و نرجو منك أن تأوينا هذه الليلة فقط حتى تمر هذه العاصفة بأمان…
فرد الرجل و صوته يعلو بهسترية : ألا ترون مكاننا، يكاد لا يسعنا نحن الاثنين فكيف نستطيع إيوائكم ….
و هنا إنبرت المراءة مثل الاسد و قاطعت كلامه مثل سهم خارق , و علا صوتها ، و قاطعت الرجل قائلا: “أليس لديك قلب يا رجل، أين يذهب هؤلاء المساكين في هذه الليلة الحالكة، و الغيوم السوداء قد التصقت بالارض من هولها و شدتها، سوف ينامون معي، اذا أمطرت أو اذا نزل الثلج، و اضطررنا الى عدم مغادرة الخيمة، و سألصق ظهري بظهرهم ، فهم مثل إخواني….
و إذا لم تمطر ، سوف أضع لهم فراشهم في الخارج، ولدينا وسائد كثيرة و لفائح جمة سوف تفي بالامر….”
قامت بذبح أحد الخرفان بنفسها ، و تقطيعها و من ثم طبخت لهم قِدْراً كبيراً مليئاً باللحم ، لطعام العشاء…
و لحسن الحظ لم تمطر، فوضعت وسائد الرجال الثلاثة في الخارج، ووضعت عليهم أغطية من اللباد الثقيل….و رغم البرد القارص في الخارج، إلا أنهم تعرقوا تحتها، و حظوا بنوم هانئ ، بعد تعب شديد ……