“الفوهرر” و”الدوتشي” و”القائد الضرورة”، وتحويل البدعة الى عقيدة

د. حسين عزيز الهنداوي

بؤس نظام المحاصصة الطوائفية يلقي بظلاله القاتمة على عظمة معاناة العراقيين خلال الحكم البعثي البائد، ذي الطبيعة الفاشية، والذي جثم على صدورهم لفترة 35 سنة بين 17 تموز 1968 و9 نيسان 2003. لكن بلا ريب، ان ما هو قائم ليس الا نتيجة منطقية للتدمير الذي أصاب كافة المجالات الحيوية للمجتمع ابان تلك الفترة المظلمة، ما أسفر، لدى الجماعات السياسية التي وصلت الى الحكم بفضل الاحتلال الأجنبي للعراق عام 2003، عن التمسك وإعادة انتاج فكرة مشوهة عن الدولة والوطن، موروثة من النظام السابق.

فرغم اعتمادها المباشر أحيانا على أفكار وطقوس مقتبسة من تجارب فاشية لدول أوروبية صناعية متطورة واستعمارية هي ذاتها كألمانيا وإيطاليا واسبانيا، ظلت التجارب الفاشية التي ظهرت في العالم الثالث ومنها التجربة البعثية، مقيّدة اجمالا بالأحوال السياسية لدولها (شبه المستعمرة او الموضوعة تحت نوع من الانتداب المعلن او المستور، كما هي محكومة بالخصوصيات المحلية لمجتمعاتها المتخلفة والخاضعة لقوى محافظة وتقاليد دينية وثقافية بالية، وبعقم اقتصاد ريعي مربوط بذيل النظام الرأسمالي العالمي الى حد التبعية التامة، وعاجز بالتالي عن توفير أي ازدهار حقيقي مهما كان، وحتى بعد نيل الاستقلال السياسي في الواقع.

صحيح، ان أفكار وسياسات الحركة الفاشية التي ولدت في القرن العشرين ووصلت الى الحكم في إيطاليا وألمانيا واسبانيا، تسربت سريعا الى شعوب ونخب وأحزاب عدة في العالم كلّه، لكن، “لم يتأّثر بأفكارها احد بنفس القوة التي تأثر لها العرب”، كما لاحظ قبلنا المؤرخ د. سيار الجميل (في مقال مهم بعنوان “الفاشية الاوربية والفاشية العربية: درس مقارن”)، وذلك “نتيجة التقاء جملة من عناصرها مع تفكيرهم”، وخصوصا لان “العرب مشهورون بالمفاخرة والمصادرة والمناجزة والمحاسنة والمرافعة والنسيب والاعتزاز بالأصول والاحادية وتربيتهم لدهور طوال على سماع العنتريات وهم تحت حكم المماليك او قسوة الباشوات او هجمة الخانات.. ولذا فقد وجدوا في رسالة الفاشية التي تعد الشعب ببعث الامجاد حلما سعيدا وطيفا نورانيا نتيجة جملة هائلة من المواريث والسلوكيات التي ترّبت ولم تزل تتربى عليها اجيالهم العربية الجديدة من دون ان يجدوا ما لدى الأمم الأخرى من امتيازات وآفاق من نوع آخر!”، معتبرا “ان العرب بقوا يجترون طقوسهم ويقلّدون ميراثهم ويتعبدون في ترديد مفاخرهم واشعارهم واساطيرهم وملاحمهم، ويطنبون في تمجيد ذاتهم، ويبكون بكاء الصعب على ماض يعتبرون أنفسهم جزءا منه، والصحيح انه مسيطر عليهم سيطرة عمياء” وهكذا “لقد تلاقت طبائع العرب مع العناصر الفاشية ومبادئها، بعد ان كانت الفكرة القومية للقرن التاسع عشر قد غادرتها اوروبا، ولكنها غدت موضع اهتمام فوق العادة عند العرب في القرن العشرين.. لقد وجدناهم يقدسونها وخصوصا في كل من العراق وبلاد الشام، ثم لحقت بهما مصر على عهد جمال عبد الناصر”!

وبالفعل، لقد اخذ ايديولوجيو البعث، يتقدمهم السوري ميشيل عفلق، معظم ما في التجارب الفاشية الأوروبية من أساليب لا إنسانية وبإعجاب وفخر وتطرف، حيث لا نجد في تراثهم المعروف سوى تبرير احكام إعدام لا تستثني أحدا، وليال لا تنتهي من هجمات “السكاكين الطويلة”، وممارسات تأديبية متوحشة كقطع صوان أذن الجندي الهارب، ووشم جبهة المنقطع عن الوظيفة، وقطع لسان من يتفوه على “القائد الضرورة” بسوء، وإجراءات عنصرية وقمعية وقسرية ليس التهجير والتعريب والتبعيث ومصادرة ابسط الحقوق والحريات الا ارحمها.
ولقد استخدم الحكم البعثي العنف كتطبيق مباشر لافكار عفلق الذي، وباسم الضرورة القومية، برر استخدام القتل ضد معارضي حزبه لإزالتهم من الوجود كضمان لإزالة نظرياتهم الخاصة، حيث كان صريحا في دعوته الى المبادرة بتصفية خصوم الفكر جسديا وليس أفكارهم وحسب. بل قد تصل دعوته تلك الى حدود مدهشة، بقوله:
آن “العمل القومي القابل للنجاح هو ذلك الذي يستثير الحقد حتى الموت تجاه أولئك الذين يجدون فكرة مضادة (للقومية). لان من التفاهة بمكان ان يحارب أعضاء الحركة النظريات ويقولوا لماذا علينا ان نهتم بالأشخاص. ان النظرية المعادية لا توجد بذاتها لذاتها، بل تتجسد في أشخاص لا بد من زوالهم لزوالها”.

ونتفق مع المؤرخ الكبير حنا بطاطو، ان في هذه الفقرة “انزلاقا الى مرتبة التعصب الأكثر اثارة للرعب، وهو يستدعي الى الذهن الاعمال الوحشية التي ارتكبها البعثيون ضد الوطنيين في العراق عام 1963.ومن سخريات التاريخ، ان عفلق نفسه انتهى قبل وفاته الى تحوير الإيديولوجية البعثية لتصبح تبشيرا بقدسية السلوك الفاشي عبر تأبيد هلوسة “القائد الضرورة” كعقيدة دينية” كما حصل لهلوسة “الفوهرر هتلر” و”الدوتشي موسوليني” من قبل. ومشوهاً الحكمة العظيمة بان “النيل هبة السماء لمصر”، سيقول عفلق في لحظة هذيان بان “صدام حسين هبة السماء إلى الأمة العربية”! معتبرا ان كل ما يفعله الطاغية “جيد للعراق والعرب وكل ما يقوم به هو فضيلة لمجرد انه هو من قام به”، ومقزما الهويتين الوطنية العراقية والقومية العربية الى درجة الإلغاء.

والحال، ان هناك من الدلائل ما يثبت ان النظام البعثي في العراق كان في حقبتيه الأولى (1963) وخاصة الثانية (1968-2003) متقدما بالفعل في سعيه للتنمذج كمثال للدولة الفاشية الحديثة في بلد غني بالقدرات والثروات رغم انه متخلف صناعياً وزراعيا واجتماعيا وريعي الاقتصاد النفطي بشكل تام في آن، وذي طبقات اجتماعية حديثة التكوين وعشائرية الى حد ما حيث تحتل البرجوازية الدنيا، المهاجرة من الريف الى المدينة حديثا بمعظمها، مساحة كبيرة نسبياً في خارطة مؤيديه واتباعه، كما تشكل القاعدة الاجتماعية للنظام البعثي نفسه الذي وجد نفسه مرتبطا اقتصادياً بالنظام الرأسمالي العالمي كـ “محيط” أي كمجرد منتج للنفط واستهلاكي وكأحد “حراس” بوابته الشرقية على حد تعبير كاتب شهير.

ان ما نطمح اليه، هو خوض محاولة جادة وامينة لأثبات، عبر الوثائق والاحداث والدلائل الملموسة، ان أيديولوجية حزب البعث الذي حكم العراق طوال عام 1963 ثم بين تموز 1968 ونيسان 2003، استمدت، عبر عفلق وكتاب مغمورين آخرين، الكثير من عناصرها الأساسية من الأيديولوجيات الفاشية الأوروبية السابقة عليها، وانها حاولت تقليدها في كثير من المواقف والإجراءات دون ان تتمكن من التخلص من طبيعة حركة البعث كنتاج لمجتمعات متخلفة في واقع الحال كما تعكسه ممارساتها الجوهرية الفعلية ورغم محاولتها التظاهر بانها حاملة رسالة تقدم لتلك المجتمعات ذاتها.

لقد كان تعميم اقصى الخوف جوهر سلطة البعث، والهدف بذاته الذي وضعته لنفسها، فيما كان الافراط في القتل والمزيد من القتل واحتقار القيم الأخلاقية اداتين متلازمتين في صنع وإعادة صنع العنف وتفعيل دوره في حياة الدولة والمجتمع. هكذا فالعنف الذي كان ينبغي ان يكون استثناء أصبح القاعدة، كما ان القتل الذي قد يكون استثناءً وكضرورة دفاعية، أصبح أولوية انتقامية متجددة (بيان 13، انفال، مقابر جماعية،..). اذ من المؤكد عمليا ان هذا النهج عزز وادام حكم البعث، لكن هذا الدور الذي بدا ضرورة مرحلية، أصبح منهجا ثابتا حتى بعد تصفية الأعداء سواء من المعارضة الوطنية (شيوعيو القيادة المركزية، الحركة الكردية، وشيوعيو اللجنة المركزية، القوميون العرب، حزب الدعوة الإسلامية..)، او المعارضة البعثية الداخلية (سلسلة الاغتيالات بالرصاص والثاليوم، مجزرة المطار في 1973، مذبحة قاعة الخلد..). وذلك لان التسلط البعثي أسس “قيادته المطلقة” على الجزم المستديم بوجود أعداء شرسين كي يبرر وحشيته غير المبررة في اطار دكتاتورية شمولية لحزب واحد لا يشبه أي حزب، وتحت قيادة زعيم متأله واحد، وحيث كل شيء في خدمة “القائد”، ولا حدود بين الشأن العسكري والمدني، والعام والخاص، ولا قيمة للرفاق انفسهم الا كمكنسة في خدمة الزعيم الذي يفضل من جانبه انشاء ورعاية دائرة داخلية عائلية وعشائرية، وخلق نخبة سياسية واقتصادية طفيلية موالية معتمدا على شبكات زبائنية مقامة على ولاءات هرمية لتعزيز السيطرة على أجهزة المخابرات والقوات المسلحة والفدائيين وعائدات النفط والابواق الإعلامية. فهذه “النخب” كانت بمثابة “حكومة ظل” متحركة تمثل المركز الحقيقي لسلطة القائد. فالعلاقات العائلية والعشائرية كانت حاسمة لاستمرار سيطرته الشمولية الى جانب علاقات ولاء مطلق قائم على توزيع الرعب او المكافآت المجزية.

لا نريد هنا كتابة تاريخ نظام فاشي حكم العراق لفترتين بالدم والخديعة في 1963 وبين 1968 و2003، وبات من اللاأخلاقي الأسف عليه. بل مجرد الكشف عبر الوثائق والممارسات والأحداث الملموسة عن حقيقة ان إيديولوجية وممارسات ذلك النظام الذي حطم الوطن تحطيما، استمدت الكثير من عناصرها الأساسية من تجارب فاشية سابقة عليها، وانها حاولت محاكاتها في كثير من المواقف والإجراءات دون ان تتمكن من التخلص من عقليتها ومميزاتها الخاصة بها كنتاج لمجتمعات نصف ريفية متخلفة في واقع الحال رغم انها حاولت التظاهر والادعاء بانها حاملة رسالة تقدم وتطور لتلك المجتمعات ذاتها. ولذا نرى، وبعد ربع قرن على سقوطه، ان فهما موضوعيا للطبيعة الفاشية للنظام البعثي الذي حكم العراق بالحديد والنار لثلث قرن سيساعد أيضا في تفسير الأسباب التي جعلت ذلك النظام يتهاوى كنمر من ورق امام القوات الأجنبية الغازية ودون مقاومة تذكر فيما صعدت الزعامات الريفية على انقاضه، كنتيجة طبيعية لتشرذم الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة ولإقصاء النخب المدنية والمثقفين عن أي دور.

قد يعجبك ايضا