ماهين شيخاني
كنت أشعر أن الحافلات تدخل باب ( الكامب ) بحزن , بعد أن رفع الحاجزَ الحديديّ من قبل الحارس ,تسير ببطء وهدوء , أسمع انين الآليات وكأنّها تمشي في جنازةٍ لتدخلَ المقبرة, ضيق في الصّدر والنّفس معاً, لا نلمح سوى أضواء خافتة حتى توقّفت حافلتنا بجانب خيمتين كبيرتين تشبهان المهاجع كتلك التي قضينا ليلة البارحة فيها , بدأنا النّزول من الحافلات وتوجّهنا إلى إحدى الخيم لتسجيل أسمائنا ، وتسلّمِ المُلَاءاتِ والفُرَشِ ، وكلّ منّا يحملُ أوراقه الثّبوتيّة تَبَعَاً لعدد أفراد أسرته ثمّ حملها إلى الخيمة المجاورة ,رغم أن أجسادنا المتعبة المنهكة نتيجة الجوع والقهر.. نُحاول جاهدين كي يرتاح الأولاد..؟!..
جُلْتُ ببصري زوايا الخيمة لنضع أحمالنا فلم أجد مكاناً يسعها ، فالزّوايا الأربعة قد سبقنا الآخرون إلى حجزها, فاضطررنا لحجز مكان في المنتصف , ثم اضطر الأولاد للقعود منهمكين وبناتي الصبايا أداروا ظهورهن للناس وحالتهن النفسية محبطة للغاية , بعد اتمام التفريش للجميع جلبوا لنا الطعام ( رز وفاصولية ) مع ربطة خبز وقناني الماء , كانت الناس منهكة من التعب والجوع والقهر, دعوتُ بناتي إلى تناول الطّعام ، لكنّ إحداهنّ رفضتْ الأكل ، والدّموع من عينيها تنسكبُ . حاولتُ – جهد المستطاع – إطعامها بيدي ، لكنّها أبتْ ، فأخذت أشرح لها الظروف القاسية والمريرة الّتي فُرضتْ علينا ، وبها نَمُرُّ مُكرهين . , قالتْ :
لماذا لم تتركني بقامشلو ؟!..ألم يكن البقاء هناك أفضل من هذا الإذلالِ ؟!..الحقّ أنّني كنتُ أتمنّى الموتَ ، ولا نخرج من بيتنا ، ولا أراكم على ما أنتم عليه من مهانةٍ ومرارةٍ ..!
كيف نأخذ قسطاً من الرّاحة ، أو ننامُ أمام هؤلاء النّاسِ ؟! .
– يا بنتي بقينا عشرة أيام في القرية وكانت حالتك مثل الآن ..؟.كنت منعكفة , منعزلة عن العالم والحياة , لا تتحدثين مع أحد , وفي قامشلو جدتك صارحتني بانها لا تستطيع تحمل مسؤوليتك وأنهم على الأغلب ربما يتركون قامشلو ويلتجئون الى دمشق , على الأقل هنا أمان حتى لو صادفتنا بعض الصعوبات , لا بد ان نواجه كل الاحتمالات , لسنا في بيتنا كنا نحاول أن ننقذ أرواحنا وترين الناس حالهم ليس بأفضل من حالنا , إنّها الحربُ ياحبيبتي…إنّها الحربُ…!
كانت بالقرب منا امرأة شقراء وزوجها وطفلتها , يبدو أنّها كانت تراقب المشهد وتعاطفت معي وأنا أحمل الطعام لابنتي , تقدمت نحونا واستأذنت بالجلوس وقالت :
– نحن من قامشلو .
– أهلاً وسهلاً , نحن من الدرباسية , والدتها متوفية , هي أيضاً كانت من قامشلو ..؟.
– أتسمح لي بالتّدخُّل ، وتتركنا وحدنا بضع دقائق, رأيتك كم تحن عليها وتحاول أن تطعمها .؟.
– حسناً , باركك المولى وسأكون ممتناً لو أخذت الطعام.
عدت وسط مسحة حزن على وجوه الأسرة كباراً وصغاراً وأنا أستشيطُ غضباً من تصرّفها وتدلّلها الزّائد , حيث كانت أصغر الأولاد وتعيش مع والدتها الراحلة الى السماء وتركتها شوقاً لاتُطْفِئُهُ السّنون ، وذكرى لاتمحوها مدى الحياة, أحس بفقدانها وألمها , لكن هذا هو القدرُ المكتوب الّذي لا مفرّ منه ..!….وقد لاحظ هذا التجمع الكبير تحت سقف هذا المهجع بأن أمورنا ليست على ما يرام بل علاقتنا لا تدل على الاحترام والتقدير مما زاد مأساتي بشكل مهول أو ربما هكذا تهيأ لي .
والأمر الّذي أثّر في نفوسنا سلباُ هو الأخبار غير المؤكّدة الّتي تردنا تباعاً وكذلك من خلال الفيسبوك وحتى في الكامب ، وقد لاحظتُ أنّ هناك أشخاصاً يتظاهرون أنّهم يعلمون كلّ شيءٍ ، حيث قال لنا أحدهم أنه سجل في إحدى المنظمات هو وأسرته بإعادة توطينهم ولا يطلبون اللجوء ، وحين ذهبتُ إلى مكتب الاستعلامات أكّدوا لي أنّ هذه المنظّمة لم تأتِ بعدُ ..!.
وفي مساء اليوم الثاني لنا في الكامب ، سمعنا بوصول دفعة أخرى من الفارين ، خرجت وحدي أتفقّد وجوه النّازلين من الحافلات ، عسى أن أرى أحد المعارف لنواسي بعضنا في مصيبتنا وبعدنا عن أرضنا وتشتت الأحبة والأهل ، استرعى انتباهي بعض النّاس يتحلّقون حول شخص طويل الشعر و القامة ، مخطّط الذّقنِ كممثل سينمائي ، يتوددون إليه وكأنه المنقذ أو المهدي المنتظر وهو يخطو خطواتٍ وعيدةً واثقةً يتوسط الناس الذين يسألونه ، إلى أن اقترب مني مسافة خمسة أمتار تقريباً عرفت من هو , وعندما شاهدني اتجه نحوي وصافحني قائلاً :
– أوه يا للخسارة كاتبنا الكبير أيضاً هنا ، لن نقبل أن تبقى هنا في هذا المخيّم أكثر من ثلاثة أيّامٍ لتتم الإجراءات ثمّ نخرجكَ منه ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، ماذا جرى لبلدنا لم يبق أحد إذاً.
– أي كاتب وأي كبير يا راجل , هناك مقولة معروفة : (من خرج من داره قَلَ مقداره ) , للأسف نعم , رأس العين والدرباسية وتل تمر , الجميع فروا ولم يبق إلا بعض القرى البعيدة عن الحدود .
– صديقي .. دون رقمي عندك
– لقد انتهى العقد المبرم بيني وبين القناة والآن أعمل مع ورشة اعلامية خاصة ، وسنجلب – إن شاء الله – غداً بعض الموادّ….سنتّصل بك حوالي السّاعة الحادية عشرة ، وليتك تصطحب معك شخصين أوثلاثة أشخاص ليساعدونا في أثناء التّوزيع.
عدنا – رغم ألمنا ومعاناتنا – إلى الخيمة فرحين ، وشرعتُ أسرد حكاية أسرتي على سمع صديقي الإعلاميّ ؛ فانفتحت كالورود أسارير وجوههم ، وطلبوا إليّ أنْ أقصّ لهم عن صداقتنا هذه ..
عبر جريدة إعلانية محلية كانت تصدر من القامشلي ، وجدت وظيفة أو عمل في شركة ( سوركول ) للمصافي المائية وفي أحد اجتماعات الإداريّينَ تعرّفتُ إلى شخصٍ جديدٍ كان يعمل معنا ، ودار بيننا الحديث الآتي :
– صوتك رخيم وعذب كصوت الفنانين ، يذكرني بصوت الممثل محمود ياسين ، كان عليك أن تكون مذيعاً أو إعلامياً ، وما شاء الله طولك طول الممثل الهندي أميتاب باتشان , للأسف الدولة لا تقبل المتسابقين في الوظائف غير الملتزمين معهم حتّى لو كانوا غير مؤهّلين, ذات مرة سمعت بمسابقة للمركز الثقافي وكان عدد المتقدّمين إلى المسابقة الخمسين متسابقاً ،لكنّهم اختاروا – كما جرتِ العادة – اثنين من المدعومين.
– ابتسم وقال : ملاحظتك دقيقة لقد سجلت كاسيت من غنائي وسأجلبها لك في المرة القادمة .
وبعد مغادرتي الشّركة بقي هو فترةً قصيرةً ، ثمّ قرّر الانتقال الى إحدى القنوات الإعلاميّة الأمر الّذي أسعدني ؛ وأصبحنا على التّواصل الاجتماعيّ صديقين متحابّين إلى أن التقيته مرّةً في المخيّم ، وبعد أن جعلت بيني وبينه موعداً توجّهتٌ إلى أصدقاء لي من رأس العين و أخذت أسمعهم أحداث القصّة .
قالوا :
– نحن مستعدّون للّتعاون معك متى شئتَ ، لأنّه عملٌ إنسانيٌّ.
كان الاتّفاقُ على أنّني سأحضر إليهم قبل الموعد المحدّد ، وعليهم أن يكونوا جاهزين.
– اتّصلتُ – في صباح اليوم التّالي – بصديقي الإعلاميّ فاعتذر إليّ عن عدم الحضور ، لأنّ شريكه قد تعرّض في الطّريق لحادثة سير ، وحين يتعافى سيأتون إليكم.
لكنه يبدو أنه لم يتعافى وهنا تذكرت مقولة : الوعد لا يضر الشخص الذي أُخلف معه، لكنّه يضر ذلك الإنسان الذي تخلى عن وعده، وآثر أن يكون إنسانًا ناقضًا للعهد. الوعد له رائحة، فمَن يخلف وعده لا بدّ أن تحل عليه لعنة .
– انتهت –