رباب طلال مدلول
في ركن هادئ من منزلي، أجد نفسي غارقة في عزلة صاخبة مليئة بالدفء والسكينة، هنا حيث لا أحتاج إلى الهروب من العالم أو الاختباء منه، لأن هذا العالم الصغير الذي صنعته لي، هو العالم الوحيد الذي أفهمه ويشبهني، بعيداً عن ضجيج البشر وضوضاء المدن وأفكارهم التي لا تهدأ أبداً، أحب أن أعيش في هذه العزلة التي تمنحني السلام الداخلي، أن أغوص في أفكاري وأغزل خيوطاً تمتد بين أصابعي، لتتحول إلى أشكال تنبض بالحياة والإبداع، هنا أجد الحرية الحقيقية، حرية أن أكون أنا بلا تكلّف أو تصنّع، وحيث لا يتدخل أحد في عالمي الخاص،حيث لايقاطعني اهلي على ذلك لأنهم يعلمون كم أحب عالمي الصغير هذا،يراقبني أبي ،ذاك الرجل الذي طالما ملأ حياتي بحضوره الصامت، يحب أن يراقبني من بعيد، يجلس بهدوء قبالتي دون أن ينطق بكلمة، لكنه بعينيه يتابع كل حركة من يديّ، يسألني أحياناً بفضول:
ماذا تحيكين هذه المرة؟ فأبتسم وأجيبه بأن يخمن ماذا احيك،
أما أمي، تلك المرأة التي تملأ حياتي بالحب والرعاية، لا تكف عن الاهتمام بي حتى وأنا في عزلة، تحضر لي بعض الكعك المخبوز والقهوة الحلوة، وكأنها تقول لي بلسان الحال: أكملي عملك يا ابنتي، وأنا هنا لأمنحك القوة والطاقة، لأنها تعلم جيداً أن هذه اللحظات التي أقضيها مع نفسي وخيوطي هي اللحظات التي أشعر فيها بأنني مرتاحة.
أما أختي ، فلا تكف عن إخباري بأنها ترغب بهذا وذاك لأحيكه لها، فأتجاهلها لأنني لا أملك الخيوط الكافية ومع ذلك، حبها لي وحبها لأعمالي يجعلني أستمتع برؤية الفرحة في عينيها حتى وإن لم أنجز لها شيئاً بعد،
وفي الأيام التي تزورنا فيها أختي الكبرى، يتحول المنزل إلى عالم آخر، عالم مليء بالضحكات والمرح، أطفالها يتجمعون حولي، ينظرون إليّ بإعجاب، يمسكون بالخيوط الصغيرة ويحاولون تقليد ما أفعل، بتلك الأيادي الصغيرة التي تعبث بخيوطي وتجعلني أبتسم، ثم لا أتمالك نفسي من احتضانهم، وعندما أقضمهم قضمات خفيفة يمتلئ المكان بضحكاتهم، إلا أصغرهم التي تبكي أحياناً لأن عضتي تكون أقوى مما تتحمل، فتضطرني لتهدئتها بالكثير من القبل والضحكات حتى تعود إلى اللعب من جديد،
هذه هي عائلتي، عائلة ليست مثالية البتة، لكنها دافئة بما يكفي لأشعر بالانتماء، كل لحظة أقضيها معهم اصنع لي فيها ذكرى جميلة، حتى وإن لم تكن حياتنا خالية من المشكلات أو التحديات، فإنني أختار أن أتذكر هذه اللحظات الدافئة، أختار أن أملأ رأسي بالذكريات الجميلة التي تستحق أن تبقى، فلا شيء يعوض دفء العائلة، ولا شيء أجمل من أن يكون لك مكان تنتمي إليه، حتى وإن كان صغيراً وغير مثالي
كما قال لي أحدهم يوماً:
“انظري إلى النصف الممتلئ من الكأس”
وكأنها دعوة للتفاؤل ورؤية الجمال في كل شيء حولي، فما حياتنا إلا مزيج من الحب والصبر، والصبر في انتظار لحظات السعادة الصافية هو ما يجعل تلك اللحظات أكثر بريقاً وأهمية، وما أجمل الحياة حينما تكون مليئة بالحب والعطاء، حتى وإن كان حباً صامتاً كحب أبي، أو اهتماماً بسيطاً كاهتمام أمي، أو فرحة عفوية كفرحة أطفال أختي.