د. ضياء عبد الخالق المندلاوي
تفتخر الأمم والشعوب بأحداثها التأريخية وأعمال رجالها العظام، تلك الأحداث والأعمال التي تخلف أثراً وتحدث تغييراً عظيماً في مجرى حياتها، فتعقد الاحتفالات وتقيم المهرجانات تكريماً لذكرى تلك المناسبات العزيزة، وبعثاً لمعانيها السامية في نفوس المواطنين ليستلهموا منها العبر، ويستوحوا منها ما ينير لهم سبيل التقدم والنجاح.
كانت أمتنا الكوردية سخية مع التأريخ في هذا المضمار فأمدته بعظيم المفاخر وجليل الأعمال، واحتل شعبنا الأبي مكان الصدارة فيما أغدقه التأريخ من المآثر والمفاخر التي توّجت بتأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي غيّر مجرى نضال الشعب الكوردي نحو تحقيق أهدافه المشروعة.
إن هذه الذكرى التي تطلُّ علينا في 16 آب من كل عام تحملُ لشعبنا تحيات الإجلال والإكبار مقرونة بأسمى آيات العزة والكرامة، تطلُّ لتفتحَ لنا أنصع صفحات التاريخ، تطلُّ فيهفو لها كل قلب مؤمن بأرضه وبتربته الطاهرة، تطل فتستبشر كلُّ نفس كريمة أبية توّاقة للحرية، تطل فيبتسم كل ضمير حي ينشد الخير والرفاه لمجموع أبناء شعبه.
هكذا تمرُّ على شعبنا الكوردي هذه الذكرى، وتستعيد وهي في غمرة أفراحها بهذه المناسبة العزيزة على قلوبهم.
حيث أرست مسيرة البارتي قواعد النضال الجماهيري المبني على أساس صلب من وضوح الرؤية وصلابة العقيدة والثبات على المبادئ في ظل ظروف دولية وإقليمية صعبة ومعقدة ما كان على حزب آخر الإطاحة به، وتجاوز سلبياتها بعزم لا يلين وإصرار كبير.
أخذت القضية الكوردية منحى آخر بعد الحرب العالمية الأولى حيث كان من المقرّر حلُّها في وقت مبكر من خلال معاهدة سيفر عام 1920 والتي نصت بنودها (62-63-64 ) على حقوق الشعب الكوردي، وكذلك الإعلان البريطاني عام 1922 حول حقوق الكورد إضافة إلى مبادئ ويلسن الأربعة عشر المتضمنة حق الشعوب المضطهدة المطالبة لنيل حريتها والوعود والتعهُّدات الأخرى التي لم يتم تنفيذها على أرض الواقع بل تعرّض الشعب الكوردي للقتل والقمع لدى المطالبة بحقوقهم المشروعة.
لذا قامت الثورات الكوردية ضد البريطانيين منذ احتلالهم للعراق، كما شارك الكورد في الثورة الوطنية العراقية (ثورة العشرين) في عام 1920 ضد الانتداب البريطاني، الذي أسهم بالتالي بتشكيل الحكومة الملكية في العراق، وكانت ثورة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في منطقة السليمانية من أبرز الثورات التي قامت في عام 1919 وامتدت طيلة الثورة العراقية، ولم تغر الشيخ محمود الحفيد عروض الإنكليز في تكليفه نيابة عنهم حكم المنطقة، واستمرت ثوراته وإن تخللتها فترات سلام حتى عام 1931.
ومن الشخصيات البارزة التي ظهرت في أوائل الثلاثينيات على مجرى الأحداث آنذاك شخصية الملا مصطفى البارزاني الذي قاد الحركة العسكرية لأنصاره في منطقة بارزان حتى عام 1936 ضد النظام العراقي في تلك الفترة، حينما فرضت عليه وعلى إخوانه الإقامة الجبرية في السليمانية، وفي تموز 1943 استطاع البارزاني العودة إلى منطقته بارزان، وقاد أنصاره في خريف تلك السنة مرة أخرى في مناوشات ضد الحكومة، وتحققت في فترة قصيرة مابين 1944-1945 هدنة بين الجانبين، أعقبتها في صيف 1945 حملة حكومية قوية ضد البارزاني و اتباعه، فتمكنت من مطاردته الى داخل الحدود الايرانية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أعلنت جمهورية كوردستان الديمقراطية في ايران والتي اتخذت مدينة مهاباد عاصمة لها، وكان للبارزاني الخالد دور كبير في إقامة هذا الكيان السياسي الكوردي الجديد الذي لم يدم سوى مدة قصيرة من الزمن، وبعد المداولات والتحليل العميق لأوضاع المنطقة آنذاك، قرّرَ الجنرال مصطفى بارزاني تأسيس الحزب في 16 أب 1946 لتحقيق أهداف شعبه القومية والديمقراطية كنتيجة حتمية للواقع السياسي آنذاك وتلبية لمطاليب شعب كوردستان.
عقد الحزب مؤتمره الأول سراً في منزل سعيد فهيم في بغداد منطقة الأعظمية بحضور (٧٠) مندوباً، وأنهى المؤتمر أعماله ومهامه بكلّ نجاح، وجرى انتخاب الملا مصطفى بارزاني رئيساً للحزب من قبل مندوبي المؤتمر، لخدمة شعبه الذي كان يمثل في نظره الغاية الأسمى لتحقيق أهدافهم الذي يجب أن يضعه الحزب نصب عينه، والذي جعل من هذا اليوم رمزاً خالداً وتاريخاً مجيداً وعزيزاً على قلوبنا وقلب كل مناضل وكل كوردي أحب الكوردايتي وكوردستان وشعبه وترابه، وكل من سار في هذا الطريق الذي تعلم منه الأخلاق السامية ومحبة الآخرين والكفاح من اجل نيل الحقوق والأهداف المرجوة للشعب الكوردي وقضيته العادلة.
لقي الحزب ترحيباً واسعاً من جماهير كوردستان لتنمية القدرات النضالية لأبنائهم، وأصبح خلال أشهر قليلة محط آمال مواطني كوردستان، وقاد مناضليه ومناصريه لطريق الحق والحرية والسير عليه وتحمل المسؤولية بكل إخلاص وتفانٍ، فقد تأسس الحزب في الوقت المناسب ليمثل جميع فئات وشرائح المجتمع الكوردستاني دون تمييز،
وايمانه بحقوق و خصوصية المكونات، ولاسيما التركمان والأشوريين والسريان والأرمن والشبك والايزيديين، إضافة لاحترامه لكافة الأديان والمذاهب والعمل على إرساء أسس التعايش السلمي في المجتمع.
منذ بدايات تأسيس الحزب سعى كقوة مؤثرة لتحقيق أهداف الشعب الكوردي وتحويل آماله وطموحاته إلى برنامج على أرض الواقع لرفع الغبن الذي لحق بهذا الشعب المضطهد قومياً ووطنياً، ولم يكن الطريق معبداً بل مرّ الحزب بظروف صعبة وتحديات جسيمة منذ تأسيسه، وكان الموقف السلبي والمعادي له من دول الجوار والمنطقة وقاداتها التي ناصبت هذا الحزب بالعداء ودعمت مناؤيها بحملات إعلامية ظالمة فقد تعرّض إلى حملات الاضطهاد والقمع والاغتيالات وما تعرض له من العدوانية والتآمر، لكن الحزب بقي صامداً ومخلصاً لشعبه وللأهداف التي تأسس من أجلها، وإن سر قوة وصمود الحزب أمام الشدائد والحروب التي شنتها الحكومات المتعاقبة في العراق والمؤامرات الدولية والإقليمية تمكّن كونه حزباً قومياً يمثل مصالح كافة مكونات الشعب الكوردستاني، وبنظرة موضوعية، لقربه من الجماهير وللزعامة القومية التي تمتع بها الزعيم الخالد مصطفى البارزاني وثقله السياسي على الساحة الكوردستانية والإقليمية والعالمية.
مارس الحزب مختلف صنوف الكفاح العسكري والسياسي والجماهيري السري والعلني، وقدّم الآلاف من الشهداء من أجل نيل حريتهم من البطش الفكري والثقافي والأيديولوجي الذي مارسته الحكومات المتعاقبة من الملكية إلى الجمهورية، ومن أنظمة عسكرية الى نظام الحزب الواحد، لأنها كانت تؤمن بالتغيير ودمقرطة مختلف المجالات، وضرورة نشر الثقافة والفكر الديمقراطي داخل المجتمع العراقي لكي تتخذ السلطة خطوات ديمقراطية سليمة لحل القضية الكوردية، وعلى هذا الأساس جعل من شعاره الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان.
بعد عودة ملا مصطفى البارزاني من الاتحاد السوفيتي حين نجحت ثورة 14 تموز 1958 ووعود عبد الكريم قاسم للشعب الكوردي في تحقيق مطالبهم، مارس الحزب مسيرته النضالية بصورة أوسع، وأثناء تراجع نظام قاسم عن وعوده وحمل شعار صهر القومية الكوردية، وسّع الحزب من ساحته نضاله، وأشعل نيران ثورة أيلول العظيمة ففي 11 أيلول 1961 وأسمع العالم عدالة القضية الكوردية وشرعيتها لتشمل هذه الثورة كافة أرجاء كوردستان العراق، واستطاعت تحقيق الإنجازات الكبيرة رغم شراسة والتفوق العسكري للنظام، ولكن إيمان الحزب بالجماهير الكوردستانية وشجاعة وخبرة البارزاني الخالد أدت إلى فشل كل المخططات الإجرامية للنظام آنذاك، وجعلت الحكومة العراقية ترضخ لمطاليب شعب كوردستان والتفاوض مع قيادة الحزب من خلال عقد اتفاقية 11 آذار 1970 حيث كانت مكسباً قومياً وتاريخياً وتشريعياً، ولأول مرة تعترف الحكومة العراقية بحقوق الكورد في إطار رسمي وأمام الرأي العام العالمي، لكن سرعان ما انكشفت نوايا الحكومة ومؤامراتها ضد قيادة الحزب وعدم تطبيق بنود الاتفاقية مما جعل الثورة تتصدى لتلك المؤامرات ومقاومة الأعداء بقوة وعزيمة جديدة لتدفع نيران الثورة مرة أخرى في عام 1974، فبعد فشل جميع محاولات الحكومة العسكرية للقضاء على الثورة لجأت الحكومة العراقية إلى أسلوب التآمر بعقد اتفاقية الجزائر السيئة الصيت في ٦/ ٣/ ١٩٧٥ بين النظام البعثي المقبور وشاه إيران والذي أعطى تنازلات من الأراضي العراقية إلى إيران، واعتبرت هذه الاتفاقية لدى معظم المصادر التأريخية والسياسية بأنها خيانة دولية شاركت فيها دول كبرى ورؤساء دول المنطقة التي كانت لها مصالح متشابكة ومعقدة وجدت في مأساة الشعب الكوردي فرصة لتحقيقها، ونتيجة لمصالح وطموحات تلك الدول والدكتاتور صدام حسين أصاب ثورة أيلول انتكاسة أدت الى تدهور الأوضاع في كوردستان، فرغم تلك الضغوطات بقي الحزب شامخاً ومدافعاً عن أهداف أمته، والجدير بالذكر أن هذه الحالة لم تدم طويلاً حيث بتوجيه من الخالد ملا مصطفى البارزاني قائد ثورة أيلول العظيمة، تمكّن الرئيس مسعود البارزاني مع شقيقه الشهيد إدريس البازراني ومجموعة من مناضلي الحزب وهم كل من (سامى شنكالي، جوهر نامق، علي عبدالله، نوري شاويس، ئازاد برواري، عارف طيفور، كريم شنكالي، محمد رزا). بتنظيم صفوف البيشمركة وتأسيس قيادة مؤقتة للحزب للدفاع عن الكورد وكوردستان، حيث مهّد ذلك للإعلان عن ثورة جديدة وهي “ثورة كولان التحررية” في ٢٦/ ٥/ ١٩٧٦
التي لم تجعل الظالمين يهنئون بموطئ قدم في أي شبر من أرض كوردستان الطاهرة.
المتتبع لمسيرة الحزب النضالية وخوضه أروع الملاحم البطولية يلاحظ أن البارتي أسس مدرسة نضالية تخرّج منها العديد من المناضلين الكورد، وسجل نقلة نوعية في نضال الشعب الكوردي نحو تحقيق أهدافهم المشروعة وحمل وما يزال النضال التحرري الكوردي ( الكوردايتي ) وبأساليب متحضرة ومتقدمة، كما قام بتشكيل قوات البيشمركة للدفاع عن حقوق الكورد ونضالهم، وفي عام 1991 استطاع الحزب وبالتعاون مع الأحزاب الكوردستانية تشكيل برلمان كوردستان وحكومة الإقليم واجراء انتخابات
حرة في ظروف صعبة وتحديّات لامثيل لها من ضغوطات الحكومة المركزية ودول الجوار والمنطقة، كما شارك في تحقيق آمال الجماهير الكوردستانية والعراقية بالقضاء على النظام الدكتاتوري الذي حكم العراق بقبضة من حديد ونار والقضاء على حزب البعث المنحل وتحرير العراق وترسيخ الديمقراطية في العراق الجديد والمشاركة الفعالة في تشكيل الحكومة الاتحادية، وقاد الحزب أشرس حرب ضد عصابات داعش الإرهابية بقيادة الرئيس مسعود البارزاني وحقق انتصارات عظيمة، وغيرها الكثير من المنجزات والمكاسب القومية والوطنية، ولاسيما إجراء استفتاء إقليم كوردستان لتقرير المصير الذي صوّت عليه غالبية الشعب، وأصبحت وثيقة تاريخية ومثار فخر للحزب ولشعبنا العظيم.
إن التحوّلات الجذرية التي شهدها كوردستان في ظل قيادة حزبنا المناضل بالتعاون مع الأحزاب الكوردستانية الأخرى أحدثت تغيُّراً نوعياً كبيراً في شتى الميادين والأصعدة، وأحدثت أثرها الواضح في حياة المواطنين ورفاههم وتقدُّمهم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي ومنحت إقليم كوردستان مركزاً مرموقاً في المنظومة العالمية بوصفه يعيش تجربة سياسية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية عميقة، واستطاع أن يقيم علاقات صداقة مع شعوب العالم ومنظماتهم السياسية المناضلة، وكذلك مع الجمعيات ومؤسسات عديدة تدافع عن حقوق الإنسان وتفهم القضية الكوردية.
ونحن نعيش أفراح هذه الذكرى العطرة لتأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني في ظلّ المنجزات التي حققها، نزداد ثقةً بغدنا المشرق وإصرارنا على المُضِي في مسيرتنا الظافرة بقيادة الرئيس مسعود البارزاني وعزمه على تحقيق أهدافنا المشروعة.
ختاماً، لا يسعُنا اليوم بمناسبة الذكرى الثامنة والسبعين لتأسيس حزبنا المناضل إلا أن نتوجّه بكلِّ إجلالٍ وإكبار ووفاء لمؤسس الحزب الديمقراطي الكوردستاني الزعيم التاريخي، والأب الروحي لأمتنا الملا مصطفى البارزاني، والقائد الشهيد إدريس بارزاني، وسائر شهداء طريق حرية كوردستان.