عادل حبه
نستذكر اليوم الشخصية الوطنية والديمقراطية الأستاذ نجيب محي الدين الذي غادر الحياة، عن عمر ناهز السادسة والتسعين في العاصمة الأردنية عمان يوم الخامس والعشرين من شباط عام 2021.
ولد في قرية الخالص (دلتاوة) في محافظة ديالى عام 1925، من عائلة مثقفة وأب مثقف يواظب على قراءة المجلات والصحف وخريج المدارس العثمانية. كما أنه كان يحتفظ بمكتبة صغيرة لم تسمح زوجته بالاقتراب منها حتى لو كان أحد أبنائه. ربما بناء على وصية تركها الأب لزوجته، هذه المكتبة التي احتوت على مجلات الهلال، والمقتطف، وكتب نقولا حداد، وشبلي شميل ومؤلفات رواد الفكر التقدمي والاتجاه الوطني.
ويشير الأستاذ نجيب محي الدين إلى سيرة والده قائلاً: “قدرت لاحقاً إن والدي كان يؤمن بالأفكار التقدمية برغم حرصه على أداء الصلاة”. عمل الأب كإداري في إحدى دوائر الدولة العراقية، وكانت آخر وظيفة له قبل رحيله المبكر مدير الخزانة في بعقوبة. بعد إنهاء التلميذ نجيب محي الدين دراسته الابتدائية في الخالص، انتقلت العائلة إلى مدينة بعقوبة، بعد نقل الوالد إلى وظيفة في بعقوبة، حيث باشر التلميذ نجيب محي الدين إكمال الدراسة في متوسطة بعقوبة المتوسطة التي أنشأت في عام 1935.
وفي سن مبكر تعرف على الفكر التقدمي الديمقراطي عندما بدأ يتلقى جريدة الأهالي ويطلع على مضامينها في مطلع عام 1932. وداوم على قراءتها بعد معاودة صدورها في عام 1943 تحت أسم «صوت الأهالي» التي أضحت البوابة للدخول في معترك العمل السياسي والانتماء إلى الحزب الوطني الديمقراطي منذ أول أيام تأسيسه في شهر نيسان عام 1946، في تلك المرحلة من حياته السياسية بدأت تتبلور في ذهنه قيم الانتماء إلى الهوية الوطنية العراقية والديمقراطية والتصدي ونبذ وباء الطائفية والتعصب المذهبي والتعصب العشائري الذي لا يبني بلداً ولا يعزز استقراره وتنميته، كما نرى الآن بأم أعيننا مع استفحال هذا الداء الذي يحرق الأخضر واليابس في أرض السواد والجبل. وأصبح معيار المفاضلة عنده في تقييم الناس والأحزاب والتيارات السياسية هو مقدار التعلق للعراق وخدمته.
أكمل الدراسة الإعدادية في بعقوبة. ويروي الأستاذ نجيب محي تلك الأيام في لقاء له مع أحد الصحفيين: ((في تلك الأيام كنا نلمس جدية المعلمين وحرصهم على تعليمنا وتربيتنا وكأنهم آباؤنا ومازالت اتذكر منظر الاصطفاف المدرسي في ساحة المدرسة صباح كل يوم قبل التوجه الى صفوف الدراسة عندما يتقدم أحد التلاميذ لقراءة قصيدة أمام المعلمين والتلاميذ وكان معظم الطلاب يترددون ويخجلون، بالنسبة لي كان لي قدراً من الجرأة والرغبة لإلقاء القصيدة أمام زملائي التلاميذ)).
ثم التحق بدار المعلمين العالية في العاصمة بغداد. وتخرج منها في نهاية الأربعينيات، ليعين بعدها مدرساً في متوسطة الخالص التي مكث فيها ثلاثة أشهر، وسرعان ما نُقل إلى ملاك مدرسة إعدادية بعقوبة للبنين، ثم أصبح مديراً للمدرسة، ثم معاوناً لدار المعلمين الريفية في بعقوبة في عامي 1952-1951.
بدأت بوادر الحراك الشعبي في العراق يبرز من جديد في الأفق بالرغم من بطش السلطات العراقية آنذاك بالحركة الوطنية والديمقراطية وملاحقة كل أنصار التيار الوطني والديمقراطي التقدمي التي بدأت بإعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي فهد ورفاقه عام 1949. وساهم الفقيد نجيب محي الدين في مقر عمله في بعقوبة بنشاط لدعم هذا الحراك الذي اندلع في تشرين الثاني عام 1952. وأدى ذلك إلى فصله من الخدمة في عام 1952 جراء تأييده لمظاهرات طلبة دار المعلمين في بعقوبة، واضطر للعمل في القطاع التعليمي الخاص في بغداد مدرساً في مدرسة الثانوية الجعفرية. وأتاح وجوده في بغداد الاتصال والتعرّف بزعيم الحزب الوطني الديمقراطي كامل الجادرجي وتطورت العلاقة به مع مرور الزمن، والذي شجعه على الكتابة والنشر في الصحف.
ونشر له أول مقال في جريدة صوت الأهالي بتاريخ 29/7/1953 بافتتاحيتها تضمنت «الدعوة الى عقد مؤتمر للمعلمين» لأول مرة في تاريخ العراق. وانغمر بنشاط في الحركة الوطنية العراقية وتعرض للاعتقال في وثبة كانون عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث وفي انتفاضة عام 1952 ضد القمع الذي وجهته الحكومة العراقية ضد الحراك الطلابي وفي انتفاضة عام 1956 ضد العدوان الثلاثي ضد الشعب المصري. وفي عام 1957 جرى تعيينه أستاذاً مساعداً في كلية الزراعة في بغداد، ثم مدير مفوض في شركة الزيوت النباتية العراقية في عام 1958 قبيل الثورة.
وفتحت ثورة تموز عام 1958 آفاق الإبداع لدى الأستاذ نجيب محي الدين، وساهم في تحقيق حلمه بإنشاء نقابة للمعلمين في العراق بعد أن فسحت السلطة الوطنية المجال بتشكيل النقابات والجمعيات في العراق. وانتخب الفقيد نقيباً للنقابة في دورتين متتاليتين في عام 1959-1960. وكانت نقابة المعلمين في مقدمة كل النقابات التي تشكلت من حيث فعالياتها ونشاطاتها وما قدمته من مكاسب للأسرة التعليمية وللتعليم في العراق، ورفع مكانة المعلم وأهمية التعليم لانتشال العراق من دائرة الركود والتخلف. وتولى الفقيد منصب مدير التعليم الابتدائي في العراق بعد الثورة. واستطاعت النقابة بقيادته المشاركة بنشاط في حملة مكافحة الأمية وتوسيع حملة التغذية في المدارس الابتدائية العراقية وحملة توفير السكن وتوزيع الأراضي بأسعار رمزية على منتسبي المؤسسات التعليمية وتوفير ضمانات صحية للأسرة التعليمية وتأسيس دور الحضانة لأولاد المعلمات وتوفير الظروف لحصول أفراد المؤسسات التعليمية على الشهادات العليا.
وعملت النقابة على وضع معايير مهنية في التعيين والتنقل بعيداً عن قيم بائسة يجري العمل بها بعدئذ أدت إلى تدهور العملية التعليمية، وتولت النقابة المبادرة في تأسيس جمعية استهلاكية للمعلمين تعرض سلعها بأسعار تتناسب مع دخل أفراد الأسرة التعليمية، إضافة إلى تأسيس صندوق ضمان للمعلمين لمنح القروض لسد حاجاتهم، كما تولّت النقابة نشر مؤلفات المعلمين وتشجيع التأليف والترجمة، وإصدار مجلة «الأجيال» الناطقة بلسان النقابة. وعملت النقابة بشكل مستقل عن الأحزاب السياسية وحاولت الحد من الهيمنة عليها من قبل الأحزاب.
هذه الإنجازات التي حققتها النقابة كانت هي الأخرى محط حقد قوى الردة والظلام في بلادنا، والتي بدأت بحملة الاغتيالات التي طالت بعض أعضاء النقابة ومنهم المعلم الشهم ممدوح الآلوسي الذي اغتيل في ساحة عنتر عام 1959، ثم تلا ذلك هبوب الريح الصفراء التي عصفت بالعراقيين في 8 شباط عام 1963 التي صفت كل ما أنجزته النقابة إضافة إلى تصفية العديد من رموزها وفي مقدمتهم الشهيد متي الشيخ. وتعرّض الفقيد نجيب محي الدين إلى نفس المصير حيث أضحى نزيل سجون ذلك العهد الأسود ليقبع عدة سنوات في تلك الأقبية، وليحاكم بعد انهيار حكم البعث من قبل القاضي والكاتب العراقي فؤاد التكرلي الذي حكم بإطلاق سراحه وتبرئته من التهم الموجهة ضده. واضطر بعدئذ للعمل كمدير مفوض في شركة المطاط العراقية (1964-2003).
ولعل أجمل ما كتب عنه هو زميله ورفيق درب الفقيد نجيب محي الدين، الأستاذ أمجد حسين حين دون هذه العبارات: ((أولى سماته أنه لا يتغير، بمعنى: لا يتلون (وليس بمعنى: لا يتطور). فمنذ عرفته في أواخر العام 1959 حتى اليوم بقي لونه ثابتاً، رغم كل شموس السلطة التي لونت بأشعتها بشرة الكثيرين)). وهنا، رب سائل يستفهم عن لون بشرته العقلية والسلوكية. هو الذكاء البناء والاستقامة والانفتاح وتحمل الأوزار والتواضع وانعدام الكراهية وصدق المحبة التي تقترب أحياناً من الحب، الذي أفرده للراحلة الغالية عفيفة يوسف عثمان، شريكة عمره حتى بعد رحيلها.
سلاماً لأبي سعد وقد فارقنا إلى مثواه الأخير، يفارق محبيه، ويبقي على تراث مجيد حققته هذه الشخصية العراقية الوطنية التنويرية.