غيابُ الهُويَّة الوطنيَّة وبروز الهويَّات الفرعيَّة

الأستاذ المساعد د. نايف كوردستاني

تَتّسمُ تركيبةُ المجتمع العراقي بالتَّعدديَّة القوميَّة، والدِّينيَّة، والمذهبيَّة، والمناطقيَّة، والقبليَّة، والعشائريَّة، والمشارب السِّياسيَّة المختلفة منذ تأسيس الكيان العراقيّ المُعاصر في عشرينيات القرن الماضي حتَّى الآن.
لم تَستطعِ الحُكومات العراقيَّة المتعاقبة منذ الحقبة الملكيَّة حتَّى الآن من فرض هُويَّة وطنيَّة جامعة واضحة المعالم لهذه التركيبة المُتعدِّدة، والمختلفة، في بلدان العالم المُتقدِّمة تكونُ التَّعدديَّة مصدرًا لقُوّة الدَّولة إلا في العراق تكونُ التَّعدديَّة مصدر ضعف، وهشاشة لعقليّات النِّظام الحاكم، ففي العراق لا يمكن فرض قوميَّة، ودين، ومذهب واحد، ومن هنا يتولّد التَّمسّك بالهويَّات الفرعيَّة، وعدم الاعتراف بالهويَّة الوطنيَّة الزَّائفة.

إِنَّ الهويَّات الفرعيَّة هي تلك الانتماءات التي تتجاوز الهويَّة الوطنيَّة معتمدة على القوميَّات، والأديان، والمذاهب، والانتماءات، والولاءات القبليَّة، والعشائريَّة، ونتيجة لغياب الهُويَّة الوطنيَّة في العراق تمسّكَ المجتمع العراقيّ بالهويّات الفرعيَّة، والتَّمسّك بالهويّات الفرعيَّة ليس عيبًا، أو انتقاصًا، لكنَّ تغليب تلك الهويَّات على الهويَّة الوطنيَّة هي إحدى إلإشكاليَّات الموجودة في العراق، وقد تنامى هذا الاعتزاز بالهويَّات الفرعيَّة بعد سقوط النِّظام البعثي البائد بالعراق في عام (2003م)، وقد تسبّبت الهويَّات الفرعيَّة بتصدّع البُنيَّة المجتمعيَّة، وازدياد الانقسامات، والصِّراعات، وتعزيز الاستقطابات في التَّركيبة الاجتماعيَّة، وتشجيعها من بعض الجهات الدَّاخليَّة، والخارجيَّة بحيث تحوّلت الهويَّات الفرعيَّة إلى نقمة كبيرة كما حدثت إِبَّان الحرب الأهليَّة -الفتنة الطَّائفيَّة- خلال سنتي(2006م-2007م)، وراح ضحية تلك الحرب العبثيَّة ألاف الأبرياء من الطَّرفين التي استغلت من مثيري الفتن في تلك الحُقْبة السَّوداء من تأريخ العراق المعاصر، وقد ساهمت تلك الحرب الأهليَّة العبثيَّة بإحداث شرخٍ كبيرٍ في البُنيَّة المجتمعيَّة، وتقسيم المجتمع، وعُنف مُدمِّر، فضلًا على تشرذمه، وتبعثره، وتفكيك الدَّولة، فلم تستطع الحكومة العراقيَّة من محاسبة مُؤجِّجي الحرب الأهليَّة، وإيقاف القنوات الفضائيَّة الإعلاميَّة التي تَبثُّ سُموم خطاب الكراهيَّة، وإثارة النَّعْرات القوميَّة، والدَّينيَّة، والمذهبيَّة، والقبليَّة، والعشائريَّة، والسِّياسيَّة في المجتمع
في ظل غياب الهُويَّة الوطنيَّة الجامعة، فقد أدّت الهويَّات الفرعيَّة دورًا كبيرًا في خلق الصِّراعات، والنِّزاعات، والأزمات، وزعزعة الاستقرار، وخلق التَّوتّرات في الترَّكيبة الاجتماعيَّة بالبلاد، فقد كانت الهويَّات الفرعيَّة إحدى العقبات الكبيرة في عدم تطبيق حُكْم النِّظام الدِّيمقراطي، لاسيما بعد مسك السُّلطة بيد إحدى الهويَّات الفرعيَّة، وتهميش بقيَّة الهويَّات الأخرى، وتبنّي سياسات عُنصريَّة تمييزيَّة طائفيَّة بالتَّعامل مع الهويَّات الفرعيَّة الأخرى، وساهمت بانقسامات حادّة في المجتمع، ونتج عن ذلك عدم الثِّقة بالجهة الحاكمة.

 إِنَّ الهويَّات الفرعيَّة تُشكِّل تحدّيًا في إدارة الشُّؤون العامَّة، وصنع القرار السِّياسيّ، فغالبًا ما تؤدي إلى تفضيل مصالح مجموعة معينة على حساب المصالحة العامَّة ممَّا تخلق بيئة من المحسوبيَّة، والفساد، وتؤثر هذه النَّمطيَّة على كفاءة إداء الحكومات، وتقوض شرعيتها في عيون المواطنين ممَّا تساهم في تراجع النِّظام الدِّيمقراطية، والحكم الرَّشيد.   
            
تأمَّل مواطنو العراق كثيرًا بعد سقوط نظام البعث البائد، واستبشروا خيرًا بزوال ذلك النِّظام الاستبداديّ – الدِّيكتاتوري- الذي همّش القوميَّات، والدِّيانات، والمذاهب بعد أن كانت الهويَّة الوطنيَّة ضبابيَّة، ثم بروز الطَّابع القوميّ لاسيّما أَنَّ العراق حكمه حزب واحد من سنة (1968م) إلى (2003م)، ثُمَّ رجلٌ واحدٌ، وهو القائد الأوحد، ومِنْ ثَمَّ ارتكابه جرائم ضدّ الإنسانيَّة، والإبادات، والمقابر الجماعية، وحملات الأنفال، وسياسات التَّهجير القسريّ، وتصحيح القوميَّة، وفرض قوميَّة واحدة، فضلًا عن حملات التَّعريب في المناطق الكوردستانيَّة، أو ذات الأغلبيَّة الكورديَّة، والاستحواذ على ممتلكات الكورد الفيليين المنقولة، وغير المنقولة، وسحب الجنسيَّة العراقيَّة منهم! 
إِنَّ مجيء البعثيين للحكم في سنة (1963م)، والانقلاب في سنة (1968م) منطلقًا لغلبة الاتجاه القوميّ في رسم الهويَّة متجاوزًا التَّنوّع القوميّ في العراق، إذ ذابت الدَّولة في السُّلطة، وذابت السُّلطة في الحزب، ومِنْ ثَمَّ تذويب الحزب في شخصية (صدام حسين) الذي اقترف ممارسات هدّدت الوحدة الوطنيَّة من خلال محاربة المكونات الاجتماعيَّة المختلفة، وكان تأثير ذلك كبيرًا، وقد أدى لإنفصال مكونات المجتمع عن الدَّولة، وانفصال
الفرد عن المجتمع، وقد رافق كُلّ ذلك اختصار (صدام حسين) عالمه السِّياسيّ إلى دوائر عائلته الضَّيّقة، وتحوّلت الدَّولة إلى الحكم العائليّ، ثُمَّ الشخص الأوَّل في العراق، الأمر الذي تبلورت معه الهويَّة العراقيَّة، وصياغتها بصورة عبادة شخصيَّة الفرد، فتحولت الهويَّة، فحلّ الولاء للفرد محلّ الولاء للدَّولة.

إِنَّ الأنظمة الشُّموليَّة تجتزأ مفهومي الوطنيَّة، والمواطنة في مدى الولاء للسُّلطة الحاكمة المتمثِّلة في شخصٍ واحدٍ من دون أن يكون للحقوق، والحريات مكانة متميزة لمبدأ المواطنة،
وقد سعت السُّلطة العراقيَّة في محاولة بناء الهويَّة بطرق قسريَّة من خلال تغيير الولاءات بالقوّة، ومحاربة كُلّ القوميّات، والمعتقدات، والثقافات المحليَّة المتأصِّلة في ضمير المكوِّنات الاجتماعيَّة العراقيَّة، وقد أدّت هذه السِّياسات إلى ضياع الهويَّة الوطنيَّة العراقيَّة، وغياب مشروع المواطنة الحقيقي، وسبّبت أيضًا باحتلال العراق من الولايات المتحدة الأمريكيَّة في (2003م). إِنَّ دور السُّلطة السِّياسيَّة، ومن خلال تبنِّيها لطرق الاستبداد، والعُنف لإدارة التَّنوّع العِرقيّ، والطَّائفي، والدِّينيّ يؤدي إلى تشويه الهويَّة، وتشتتها، فضلًا عن إحيائه للهويَّات الفرعيَّة، وتغليبها ليغيب معها الاندماج المجتمعيّ.

 إِنَّ الهويَّة الوطنيَّة لدى الفرد العراقيّ قد تعرَّضت لكثير من عمليات التَّشويه جرّاء ممارسات السُّلطة السِّياسيَّة؛ لأَنّها لم تنبع من ذواتهم بشكل تلقائي بل تمّت من خلال ما مارسته الدَّولة، ونخبها المُؤطَّرة بأيديولوجيَّة إقصائيَّة مارست عمليات الصَّهْر، والدَّمج القسريّ لمكوِّنات الشَّعب العراقيّ جميعًا على اختلاف أطيافه العِرقيَّة، والدِّينيَّة، والمذهبيَّة، فأن هشاشة هذه الهويَّة هو العامل الأساسيّ وراء ديمومة العُنْف في الوضع السِّياسيّ، والاجتماعيّ العراقيّ.
وازدادت مشاعر الإحباط، واليأس نتيجة الأوضاع الأمنيَّة المتفاقمة بين الحين، والآخر، وتفشِّي ظاهرة الفساد في مفاصل الحكومات، والإخفاق من تقديم الخدمات، والبُنى التَّحتيَّة، وإنشاء المشاريع، وزيادة العمليّات الإرهابيَّة في مناطق متفرقة من العراق بدوافع انتقاميَّة، وسياسيَّة، ودينيَّة، ومذهبيَّة، والعمل لصالح تلك الولاءات، والهويَّات الفرعيَّة المدفوعة من جهات متنفِّذة ممَّا ساعد في بروز ظاهرة الهجرة إلى خارج البلاد للبحث عن وطن بديل بعد تعرّضهم للتَّهديدات، والتَّصفيات، والتصرف بممتلكاتهم، لاسيَّما أَنَّ الحظوة أصبحت للهويَّات الفرعيَّة بعد عدم تمكُّن الجهات، والأحزاب، والتَّيّارات السِّياسيَّة من إيجاد هويَّة وطنيَّة جامعة!
  وقد انتاب المواطنون خيبات الأمل، وفقدان الثِّقة بالعمليَّة السِّياسيَّة المُشوّهة العرجاء، والدِّيمقراطية المُشلولة والخُروقات الدُّستوريَّة، وأصبح المواطنون يشعرون بالقلق من مستقبلهم المُهدَّد.
إِنَّ اتّباع سياسة لي الأذرع لا يمكن التَّعويل عليه، وهي سياسة لا يمكن لها الدَّوام، والاستمرار، والمؤشرات تَدلُّ على انهيار تلك السِّياسة.
ولهذا السبب برزت فكرة إنشاء الإقليم من شخصيّات، وجهات سياسيَّة سُنِّيَّة الذين يعانون من التَّهجير، واللجوء، والنُّزوح، والتَّغييب، والمعتقلين الأبرياء في السُّجون، والتَّهميش، والإقصاء السِّياسيّ، والمكاتب الاقتصاديَّة، وفرض الإتاوات، وسيطرة الفصائل المُسلَّحة في مناطقهم، وفقدانهم الأمل بالطَّبقة الحاكمة، وتجدر الإشارة إلى أَنَّ كثيرًا من السُّنَّة كانوا رافضين للعملية السِّياسيَّة، والدُّستور، وفكرة  تشكيل الأقاليم، لكن اليوم توصُّلوا إلى قناعة تامَّة بأَنَّ الحلَّ يكمن في الأقاليم الدُّستوريَّة -على غِرار تجربة إقليم كوردستان النَّاجحة-، وعدم فرض هويّات فرعيَّة على مواطني تلك المناطق، وهذا مطلب شرعيّ، وحَقٌّ دستوريٌّ وفق الدُّستور العراقيّ.

  إِنَّ خيار بناء الدَّولة المدنيَّة الدِّيمقراطيَّة، والعمل على الهويَّة الوطنيَّة، وترسيخ ثقافة المواطنة هو الخيار الأمثل، والناجح، وهذه المرحلة تقتضي تحالفًا واسعًا بين المؤمنين بالهويَّة الوطنيَّة جميعًا بغض النظر عن القوميَّة، والدِّين، والمذهب، والطائفة، والمنطقة، وهذا النهج هو المُخلِّص من سياسة التَّهميش، والإقصاء، والإلغاء.

حاول النِّظام السِّياسيّ المَلكيَّ بناء مشروع الهُويَّة الوطنيَّة، لكنَّه لم يستطع إكماله، بلْ إِنَّه كان وجهًا لوجهٍ مع أزمة الهُويَّة الوطنيَّة العراقيَّة لعدم تجانس مُكوِّنات الشَّعوب العراقيَّة، وكان كُلُّ مُكوِّن اجتماعيّ منغلق على نفسه بسبب السِّياسات التي مارستها الدَّولة العُثمانيَّة، إذ خضع المُجتمع الحضريّ إلى الشَّريعة الإسلاميَّة، وكان أهل الرِّيف غارقين في العادات، والتَّقاليد، والأعراف العصبيَّة القبليَّة، في حين كان المثقفون متأثرينَ بالثَّقافة التُّركيَّة- العُثمانيَّة-.
لقد مَرَّ العراق بتطوّرات سياسيَّة مُهمِّة مُنذ تأسيس الدَّولة العراقيَّة الحديثة في عام (1921م)، وخضع لأنظمة سياسيَّة مُتنوِّعة أيضًا (المَلكيَّة، والجُمهوريَّة الأولى، والثَّانيَّة، والثَّالثة، والاتّحاديَّة –الفيدراليَّة-)، وقد عانت كُلّ هذه الأنظمة السِّياسيَّة من صُعوبة إيجاد هُويَّة وطنيَّة، وبناء مشروع مواطنة عراقيَّة. 

إِذْ إِنَّ طبيعة التَّنوّع السَّائدة في تركيبة المجتمع العراقيّ، وتُعدّد أطيافه، ومُكوِّناته بدلًا مِنْ أَن تكونَ عامل إِثراء ثقافيّ وحدويّ كانت عاملًا معيقًا للهويَّة الوطنيَّة، وليس ذلك لتأصيل الهويَّات الفرعيَّة في المجتمع العراقي فحسب، وإِنَّما عدم قدرة كُلّ الأنظمة السِّياسيَّة المتعاقبة على إرساء مشروع وطنيّ، ورُبَّما عدم جدّيّته! 

إِنَّ دور الدَّولة يكمنُ في عمليَّة بنائها هو جَمْع شِتات شعبها، وعناصرها العِرقيَّة، وانتماءاتها الدِّينيَّة، والمذهبيَّة في نظام سياسيّ واحد، وقويّ، فضلًا عن بناء الدَّولة، فلا بُدَّ من تعزيز مفهوم المُواطنة، وتخطِّي الفروقات الدِّينيَّة، وتعزيز الاندماج المُجتمعيّ، والوحدة الوطنيَّة القائمة على التَّلاحم بين مختلف مُكوِّنات المجتمع التي تُعرف بالوحدة الثَّقافيَّة، والسِّياسيَّة في إطار الدَّولة، والقبول بالآخر في إطار الهُّويَّة الوطنيَّة، والانتماء، والولاء لها في ضوء القِيم الوطنيَّة المُشْتركة.

 تبقى المُواطنة مرتكزة على بُعدين مهمين، وهما، الأوّل: المُساواة، والثَّاني: الحُرية، إذ المُساواة في الحُقوق، والواجبات، والحُريَّة في كُلِّ ما يحفظ نوع الفرد سياسيًا، وثقافيًا، ودينيًا، وما يتبع هذان البُعدان من الإحساس، والولاء للدَّولة ممَّا يعني بأَنَّ المُواطنة هي بحدّ ذاتها مُرتكزًا لبناء الدَّولة.

إِنَّ ما حلَّ بالعراق بعد سنة (2003م) كان له أثر عميق في تفتيت مشروعه لبناء دولة وطنيَّة قويَّة تمتلك كُلّ مُقوّمات القُوّة، والتَّأثير إقليميًّا، ودوليًا، وتشكّلت كُلّ الحُكومات العراقيَّة من بعد عام (2005م) ممَّا جعلها حكومة شراكة وطنيَّة قائمة على أُسُس ثلاثة، وهي المُشاركة، والتَّوازن، والتَّوافق لكن هذا لم يُطبَّقْ عمليَّا ولم يُترّجمْ على أرض الواقع، ومِنْ ثَمَّ أدّت إلى ضعف الدَّولة، و قُوَّة الهويَّات الفرعيَّة، وغاب مشروع الهويَّة الوطنيَّة، وبدأت مؤسسات الدَّولة تُؤطِّر الانقسامات العرقيَّة، والدِّينيَّة، والطَّائفيَّة، وقامت التَّعدديَّة الحزبيَّة على استغلال الهويَّات الفرعيَّة بوصفها أهمُّ مُحرِّك للتَّعبئة الجماهيريَّة، وتحوّل بناء المُواطنة إلى إستراتيجية للكسب السِّياسيّ الحزبيّ، إِذْ إِنَّ ضعف الدَّولة، وصراع المُكوِّنات جعل المواطن أن يلجأ إلى هويّته الفرعيَّة، ويتمسك بها، فأعاد المواطن العراقي ارتباطه بالقوميَّة، والقبيلة، والطَّائفة؛ ليحقق من خلالها الأمان حين عجزت الدَّولة عن ضمانته.

وممَّا تقدم أن المواطن العراقي ينظر إلى وطنه من خلال قوميته، ودينه، ومذهبه، وطائفته بمعنى أنه ينظر لما هو صالح هويته الفرعيَّة على حساب هويّته الوطنيَّة، ومشروع المواطنة يفترض أن تكون النظرة معكوسة أي ينظر العراقي إلى ولائه من خلال الولاء للوطن فما يصلح للعراق، واستقراره صالح للطائفة. ومن خلال تغليب الهويَّات الفرعيَّة على الولاء للوطن غاب مشروع المُواطنة، والإشكالية الأخرى التي سبّبت الانتماء للهويَّة الفرعيَّة تقع على السُّلطة التي رفعت هذه الهويَّات على حساب الولاء الأكبر للهويّة الوطنية، إذ يقعُ على عاتق السُّلطة أَن ترفع التَّمييز على أساس القوميَّة، والدِّين، والمذهب، والقبيلة في الحقوق، وإذا ما تمكّنت السُّلطة من رفع القانون فوق المواطن، فأَنَّها قد تجاوزت التَّمييز، وستُحقِّقُ المُساواة، وتعلي من شأن المُواطنة، والشُّعور بها، ففي الدُّول المُتقدِّمة هناك أولوية للنِّظام على المواطن، فليس هناك تعارض بين الانتماء للقوميَّة، والمذهب، أو القبيلة، أو الدِّين، والانتماء للوطن، بل على العكس يمكن أن تكون هذه الهويَّات الفرعيَّة عامل إثراء وطنيّ، وثقافيّ إذ ما رفع التَّمييز على أساسها. 

أمَّا الهويَّة الوطنيَّة، والمُواطنة، وبناء الدَّولة المُوحّدة القويَّة يتطلب وجود شعب مؤمن بهدف مشترك واحد رغم تنوعه، واختلافه، وهي ما يعرف بالإرادة الوطنية التي تُرجِّح كفَّة الوطن على بقية الانتماءات سواء القوميَّة، أم الدِّينيَّة، أم الطَّائفيَّة.
يرى بعض المختصّين أَنَّ مفهوم الهُويَّة الوطنيَّة يرتبط بالمُواطنة، ويعني تعزيز الشُّعور، والإحساس لدى الأفراد داخل المجتمع بالانتماء، والولاء الحقيقي إلى البلد، والحفاظ عليه.

وتقومُ الهُويَّة الوطنيَّة على أربع مقومات أساسيَّة، وهي المُساواة، والحُقوق، والواجبات، والولاء والانتماء، والمشاركة السِّياسيَّة.
إِنَّ الهُويَّة الوطنيَّة الجامعة هي الانتماء إلى الأرض التي تعني الوطن، وهي مجموعة من القِيم، والأخلاق التي تعكسُ أفعالًا تُعزِّزُ من الاستقرار في الوطن، والدِّفاع عنه، والتَّقييد بنظمه، واحترام قوانينه، ونسيجه الاجتماعيّ المُتنوّع.
ولكي يشعر الفرد بهويّته الوطنيَّة يجب أن يتمتع بحقوقه أولًا في وطنه استنادًا إلى نظامـه القـانونيّ؛ ليـزداد ثقته بوطنـه، فضــلًا عـن ذلـك يتطلـب أن يكــون المواطنـون شـركاء حقيقيـين فـي صـنع القـرارات المهمـة فـي أوطـانهم؛ بشـرط أن تتوافق هذه الحقوق مع ما يفرضه الدستور من التزامات على عاتق المواطن ليصـون كرامـة، وهيبــة الــوطن.

قد يعجبك ايضا