التآخي ـ وكالات
اضطرت شركات شحن دولية إلى تغيير مسار سفنها تجنبا للمرور عبر البحر الأحمر مع تصاعد هجمات الحوثيين. ويرى خبراء أن الهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة اليمني، يمثل تصعيدا خطيرا من شأنه الإضرار بالملاحة الدولية.
وتراجعت حركة السفن عبر البحر الأحمر، شريان التجارة بين آسيا وأوروبا، بنسبة 80 بالمئة منذ تصاعد التوتر بين الحوثيين وإسرائيل بشكل كبير الأسبوع الماضي. وشنت إسرائيل السبت (20 تموز 2024) غارات قالت إنها أصابت “أهدافا للحوثيين” في غرب البلاد غداة تبني الحوثيين اليمنيين هجوما بمسيرة مفخخة أوقع قتيلا في تل أبيب. وأدت الغارات الجوية الإسرائيلية إلى مقتل ستة أشخاص وإصابة ما يصل إلى 80 آخرين في مدينة الحديدة اليمينة.
ومنذ تشرين الثاني الماضي، بدأ الحوثيون في شن هجمات استهدفت الملاحة البحرية في عرض البحر الأحمر تحت دعاوى معارضتهم العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. وأدت هجمات الحوثيين إلى إجبار شركات شحن دولية إلى تغيير مسار سفنها صوب ممر الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا لتفادي البحر الأحمر.
وبرغم ذلك، لازالت بعض السفن تختار الإبحار عبر مضيق باب المندب الواقع في أقصى جنوب البحر الأحمر ويبلغ عرضه نحو 30 كيلومترا، حيث كشف موقع Marinetraffic.com عن أن عشرات السفن تبحر عبر البحر الأحمر.
وفي مقابلة مع القناة الالمانية DW، قالت إميلي ستوسبول، المحللة المتخصصة في عمليات الشحن بشركة “زانيتا” الاستشارية ومقرها الدنمارك، إن الحوثيين “استهدفوا سفن الحاويات الدولية الأكبر حجما، لكنهم لم يستهدفوا السفن الأصغر حجما بالقدر نفسه”؛ وأضافت أنه برغم تواجد خطر تعرضها للهجوم، إلا أن “الشركات الصغيرة قررت أنه ما يزال بإمكانها عبور البحر الأحمر بدرجة أمان مقبولة”.
وكان موقع بلومبيرغ قد أفاد في آذار الماضي بأن الحوثيين أبلغوا الصين وروسيا أن سفنهم يمكنها الإبحار عبر البحر الأحمر وخليج عدن من دون التعرض لهجمات. وبرغم تجنب معظم السفن مضيق باب المندب، إلا أن الحوثيين استهدفوا ثلاث سفن في غضون ايام.
وقالت هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية السبت (20 تموز) إنها تلقت بلاغا عن هجومين على سفينة كانت تبعد 64 ميلا بحريا شمال غربي المخا باليمن مما ألحق أضرارا طفيفة بها. وأبلغ ربان السفينة التي ترفع علم ليبيريا عن وقوع هجومين، الأول بوساطة طائرة مسيرة انفجرت على مقربة من السفينة، والثاني بوساطة زورق مسير انفجر أيضا بالقرب من السفينة.
وسبق ذلك تضرر سفينة ترفع علم سنغافورة بسبب هجوم شنه الحوثيون، فيما قالت الشركة المالكة إن السفينة كانت في طريقها من بربرة في الصومال إلى كولومبو في سريلانكا. وردا على ذلك، تشن بريطانيا والولايات المتحدة منذ شباط 2024 ضربات أسقطت طائرات مسيرة وقصفت مواقع هجومية في اليمن.
وبرغم أن ميناء الحديدة المطل على البحر الأحمر، ليس محطة عبور رئيسة لسفن الحاويات الكبرى في العالم، إلا أنه يمثل شريان حياة رئيس لليمن اذ يمر عن طريقه قرابة 80 بالمئة من واردات الوقود والمواد الغذائية والمساعدات الإنسانية الأخرى التي تدخل البلاد. وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من نصف سكان اليمن يعتمدون على المساعدات الإنسانية.
واستولى الحوثيون في عام 2015 على الميناء الذي جرى إنشاؤه عام 1961 بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي السابق. وعقب سيطرة الحوثيين، استهدف التحالف العسكري بقيادة السعودية الميناء في إطار حملة دعم الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا. ومؤخرا، وافقت الأمم المتحدة على حزمة مساعدات بقيمة 46.57 مليون يورو (50.52 مليون دولار) لإصلاح الأضرار التي لحقت بميناء الحديدة بسبب القتال.
وكانت الغارات الإسرائيلية قد أصابت محطة لتوليد الكهرباء ومنشآت لتخزين الوقود في ميناء الحُدَيْدة، الرصيف البحري الرئيس الخاضع لسيطرة الحوثيين المدعومين من إيران في غرب اليمن، بحسب فرانس برس. ونقلت الوكالة عن مجموعة “نافانتي” ومقرها الولايات المتحدة قولها إن الغارات دمّرت خمس رافعات ومعظم سعة تخزين الوقود بالميناء البالغة 150 ألف طن، ما ترك محافظة الحديدة بسعة إجمالية تبلغ 50 ألفاً.
من جهتها، لفتت وكالة “أمبري” البريطانية للأمن البحري إلى أن صور الأقمار الاصطناعية التي أعقبت الضربات أظهرت “أضراراً جسيمة لحقت بمنشآت تخزين المنتجات النفطية”، مشيرة إلى رصد أربع سفن تجارية في الميناء وقت الغارات، وثمان أخرى في المرسى.
وفي تغريدة على منصة “إكس” الاثنين (22 تموز)، أشار الصحفي اليمني بسيم الجناني إلى “عودة العمل في ميناء الحديدة بعد توقف دام يومين”. في هذه الأثناء، ذكرت وسائل إعلام يمنية أن استئناف العمل بشكل اعتيادي في ميناء الحديدة قد يستغرق ستة أشهر.
وبرغم أن الغارات الإسرائيلية أثارت حملة إدانات واسعة، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال إن بلاده “هاجمت ميناءً يستعمل لدخول أسلحة من إيران…(الحديدة) ليس ميناء بريئا، بل يستغل لأغراض عسكرية”.
وعلى وقع ذلك، تبادلت إسرائيل والحوثيون التهديدات بتكثيف الهجمات، فيما هددت الأخيرة بتوسيع نطاق الهجمات المسيرة لتشمل التجارة البحرية في جميع أنحاء المنطقة. ويقول خبراء إن هجمات الحوثيين الأخيرة التي طالت ميناء إيلات في جنوب إسرائيل، تعكس قدرتهم على ضرب أهداف بعيدة المدى.
ويقول لارس جنسن، المتخصص في النقل البحري لدى شركة “فسبوتشى ماريتايم” في كوبنهاغن عاصمة الدنمارك، إن هجمات الحوثيين الأخيرة “تثبت تهديداتهم السابقة باستهداف سفن الشحن في شرق البحر المتوسط ما يعني أن الخطر لا ينصب فقط على جنوب البحر الأحمر وإنما على كامله الذي من المحتمل أنه يكون منطقة عبور خطرة”.
وقبل تصاعد التوتر، كان يمر قرابة 12 في المئة من حجم التجارة العالمية عبر مضيق باب المندب ومنه إلى قناة السويس. وتعد القناة أقصر طريق بحري بين آسيا وأوروبا مما يجعلها نقطة عبور مهمة لمصادر الطاقة اذ يمر نحو تسعة ملايين برميل من النفط عبرها يوميا.
بيد أن قرار شركات الملاحة الكبرى تغيير مسار سفنها بعيدا عن البحر الأحمر تسبب في ارتفاع التكاليف؛ إذ أن سفن الشحن المنطلقة من الشرق الأقصى صوب أوروبا باتت في حاجة إلى الالتفاف حول القارة الأفريقية بأكملها عبر طريق رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا. وتستغرق الرحلة أسبوعاً إضافياً مع قطع 3500 ميل بحري إضافي فيما تقدر تكلفة الوقود الإضافي وحده بمليون دولار لكل رحلة بحرية، بحسب تقديرات شركة ” إل.إس.إي.جي” لأبحاث الشحن.
وعلى وقع ذلك، حذر خبراء من أن أزمة البحر الأحمر تنذر بتداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي وسط مخاوف من أن تؤدي الأزمة، في حالة طال أمدها، إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة؛ ومن المرجح أن ترتفع أسعار النفط ما سيمثل خطرا قد يهدد التعافي الهش من معدلات التضخم الجامحة.
ويظهر أن تأثير الإبحار بعيدا عن باب المندب، لم يتوقف عند الخسائر المادية وإنما تسببت الأزمة في أضرار بيئية؛ إذ أفادت بلومبرغ بارتفاع انبعاثات الكربون الناتجة عن الشحن البحري بمقدار 23 مليون طن في النصف الأول من العام الحالي.
وفي حديثها قالت إميلي ستوسبول، المحللة المتخصصة في عمليات الشحن بشركة “زانيتا” الاستشارية، إن ارتفاع معدل الطلب بشكل كبير مع محدودية القدرة الاستيعابية “أجبر شركات الشحن على دفع ما تطلبه شركات النقل من أجل ضمان نقل السلع”. وأضافت أن “بعض خطوط الشحن قد تجاوزت قدرتها الاستيعابية ما أجبرها على التوقف عن العمل”. وأوضحت المحللة أنه “في الأسابيع والأشهر الأولى من الأزمة، كنا نتحدث عن موعد عودة الملاحة إلى البحر الأحمر، لكن يظهر أن هذا الأمر بات بعيد المنال عقب الهجمات الأخيرة”.
وبرغم المسافة التي تزيد عن أكثر من ألفي كيلومتر، نفذ الحوثيون في اليمن هجمات على إسرائيل كما هددوا بشن المزيد؛ وشدد زعيم الحوثيين، عبد الملك الحوثي، على تصميم جماعته على الاستمرار في مهاجمة إسرائيل، وقال مؤخرا إنهم “سعداء جدا” بالتصعيد ومستعدون للمواجهة ولحرب طويلة معها، ولن تكون هناك خطوطا حمر.
وينتمي الحوثيون إلى مجموعة قبائل في شمال اليمن قرب الحدود مع السعودية، يتبعون المذهب الزيدي الذي يعد أحد طوائف الشيعة. وعلى عكس كثير من الشيعة، لا يؤمن الزيديون بعودة المهدي المنتظر؛ لكن انتماءهم إلى الطائفة الشيعية يعد سببا أساسيا لعلاقاتهم الوثيقة مع إيران، التي تقول إنها تقود المحور المعادي لإسرائيل وتمثل مصالح الشيعة في المنطقة.
وفي اليمن يشكل الزيديون نحو ثلث السكان. ويعود ظهور حركة الحوثي كجماعة سياسية ومن ثم عسكرية إلى بدايات تسعينات القرن الماضي؛ وقد أسس الحركة الأولى حسين بدر الدين الحوثي، شقيق الزعيم الحالي للحوثيين عبد الملك الحوثي. وحسين بدر الدين الحوثي كان نائبا سابقا في البرلمان اليمني وأعلن عن معارضته لسياسات الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح.
ومنذ ما يسمى بثورات الربيع العربي، ازداد اتهام الحوثيين للحكومة المركزية في صنعاء بتهميش الزيديين وانتهاك حقوقهم، كما يتهمون الحكومة بالتقارب مع إسرائيل والولايات المتحدة؛ واعتمادا على هذه الاتهامات ثاروا عام 2014 ضد حكومة الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي، الذي استطاع البقاء في منصبه بفضل دعم التحالف العسكري الذي قادته السعودية، وتدخل في حرب اليمن منذ عام 2015 وحتى الآن.