يوسف عز الدين السامرائي
الدكتور عبد الرزاق أمان جواد محيي الدين (1910-1983) من أعلام العراق الحديث ومن أوائل التربويين الذين أسهموا في التعليم الجامعي، ولد في أسرة علمية دينية نزحت إلى النجف من لبنان الجنوبي أواسط القرن الثامن الهجري، وارتبطت بوشائج النسب مع كثير من الأسر اللبنانية، وكانت لهم في النجف بيوت ثقافية ومجالس فقهية، وأحصى الدكتور حسين علي محفوظ خمسين علما من نوابغهم تصدى للتقليد والاجتهاد وتشكل مؤلفاتهم مكتبة عظيمة.
ولانحداره الديني فقد ارتدى العمة على عادة أبناء العلماء، وعلى طريقة السلف في الدراسات فقد تقلب بين كثير من الأساتذة، وتعلم منهم أساليب النقاش والجدل والمطارحات، ودرس المقدمات كالنحو على السيد ضياء الدين بحر العلوم، والمنطق والبيان والمعاني على الشيخ مهدي الحجار، والأصول على الشيخ محمد تقي صادق العاملي والفقه على السيد محمد باقر الشخص، والأدب والعروض على الشيخ قاسم محيي الدين، وحضر حلقات البحث الخارج على السيد حسين الحمامي الذي كان يأخذ تلامذته بالصرامة العلمية والشدة في منح الإجازة، فلا يتتلمذ عليه إلا من يجد في نفسه القدرة على الجدل والاستقراء، وتفوق على أخدانه في هذه العلوم حتى أخذ يغشى المجالس الأدبية والمحافل العلمية وهو في مستهل حياته العلمية، وبرز بين الكبار مفندا لآرائهم مصححا لأفكارهم في عناد ومشاكسة دفعت كثيرين لاتهامه بالغرور والتكبر والخروج على المألوف، فكان مع دعوة الأمين العاملي في حرمة التطبير، ومع الثورة على الأساليب البالية في التعليم الديني والدعوة للتجديد في العلوم والدروس. جمعية منتدى النشر
وكان من العاملين على أنشاء جمعية منتدى النشر في النجف التي أخذت على عاتقها تجديد الدراسة الدينية ونبذ الأساليب القديمة باعتماد المناهج الحديثة، وشارك في مهرجان شعري إلى جانب شاعر العرب الجواهري الكبير في مواجهة الشعراء التقليديين، كالشيخ كاظم السوداني والشيخ مهدي الحجار، وكانت الغلبة للشباب على الشيوخ، وذكر الشيخ علي الخاقاني في موسوعته الكبرى شعراء الغري كثيرا من هذه المعارك، وكان لإسهامه في تأسيس الرابطة العلمية الأدبية في النجف عام 1932 مع الفقيدين محمود الحبوبي وصالح الجعفري، أثرا واضحا في تكوين قيادة جديدة لبعث الأدب ألنجفي وإنهاضه من سباته، فقد شكل هذا المثلث الذهبي رأس الرمح في المدرسة الحديثة التي حاولت الخروج بالأدب ألنجفي من قوقعته المغلقة، ومسايرة الدعوات التجديدية في المعاني والأساليب. راي الخاقاني
يقول الشيخ علي ألخاقاني”وكانت آراؤه ذات شأن وتركز في أيجاد كثير من الحلول للمشاكل التي اعترضت طريق تأسيس الجمعية، وقد عرف بخصوبة الذهن والعنف والصرامة في سبيل مبدئه ورأيه دون أن يعبأ بما يعارضه أو يخيفه من تهريج الأميين من أبناء الروحيين الذين تلفعوا بالألقاب الفارغة والعظامية المنقرضة، ولقد كان أحد الشباب الحي الذي ناضل في سبيل عقيدته الطاهرة بمناصرته للحجة الخالد السيد محسن الأمين العاملي عندما ثار على العادات القاسية التي تستخدم في المظاهر الحسينية، فكان من بارزي أخدانه الذين وقفوا سدا في وجوه الثائرين الذين اعتصموا بالهوج والقوة والفوضوية، وبهذا الموقف تقرر المصير الذي تغلب فيه الفكر الحي على الرجعية الرعناء.
وقد ذكر المربي والمناضل المعروف على محمد الشبيبي، إن مجموعة من الشباب النجف كونوا في عام 1930 جماعة عرفت باسم “العاصفة الحمراء” كان من المشاركين فيها هادي الجبوري ومرتضى فرج الله، ويزودها بالكراسات والكتب الاشتراكية أحمد جمال الدين وصادق كمونه، وكان لهؤلاء الأفاضل أثرهم في نشر الفكر الاشتراكي بين صفوف الأدباء والشعراء ورجال الدين، مما جعل كثيرون من الشباب المتنورين ينهلون منه، وكان المرحوم محيي الدين في طليعة من تأثر بهذه المجموعة لعلاقته بهم، فقد شارك في حفل أدبي عام 1930 وألقى فيه قصيدته المعروفة “ربة الدل” التي حازت على أعجاب كثيرين، وأثارت ضجة بسبب الأفكار التي وردت فيها، مما هو غير مألوف في المجتمع ألنجفي المعروف بتزمته الديني ومحافظته على كل ما هو قديم، وأكثر ما أثار حفيظة المتزمتين ما دعا إليه الشاعر من تحبيذ للفكر الاشتراكي، واعتباره الطريق الأنسب لرفاه الشعوب، برغم أنه ممن يرتدون العمة، ويتطلعون لنيل المراتب الدينية.
وكان يتصيد المناسبات الداعية لإبراز آرائه الإصلاحية، ودعواته التجديدية، فقد وقف سنة 1931 في أحد المحافل الأدبية التي غصت بالكثير من المتشددين والمحافظين، ودعا إلى المساواة بين الطوائف الدينية، ونبذ التفرقة والتناحر بين المختلفين، وانشد قصيدته ” أحلام اليقظة” وكان لها صدى مثير تعرض معه الشاعر لغضب رجال الدين، واتهم حينها بالمروق عن الدين، وحدثت ضجة كبيرة، وتعرض لضغوط من مختلف الأوساط النجفية، إلا أنه أستطاع التخلص منها لتعلقه برواية عن الأمام الصادق.
أنتخب عضوا في المجمع العلمي العراقي عام 1963 فنائبا لرئيسه ثم رئيسا له عام 1965وأنتخب لأربع دورات متتالية حتى أقيل منه سنة 1979 بقرار من صدام حسين لعدم مسايرته توجهات السلطة في اختيار بعض رموز السلطة لعضوية المجمع العلمي العراقي.
وبعد رحيل العلامة الشيخ محمد رضا الشبيبي عام 1966 أنتخب لعضوية مجمع اللغة العربية في القاهرة خلفا له، واختير عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1973،ومجمع اللغة العربية الأردني عام 1978،والمجمع العلمي الهندي، ومؤسسة التعريب في الرباط، وعضوية المجمع الملكي لبحوث الحضارة “مؤسسة آل البيت عام 1980،وأنتخب نائبا لرئيس اتحاد المجامع اللغوية عام 1966 وعضوية اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية عام 1945،وهو عضو اتحاد الأدباء العرب عام وعضو اتحاد الكتاب الأسيويين الأفريقيين منذ عام 1958،وكان من المؤسسين لجمعية الكتاب والمؤلفين العراقيين وانتخب نائبا لرئيسها، وعضوا في مؤتمرات المستشرقين، ومؤتمرات الكتاب الأسيويين الأفريقيين، ومؤتمرات التعريب في الجزائر والرباط، وترأس وفود بلاده في كثير من المؤتمرات الأدبية والثقافية والفكرية والسياسية، وحاضر في جامعات عربية وأجنبية. الجانب السياسي
أما في الجانب السياسي فقد أستوزر عدة مرات، وأنتخب أمينا عاما للقيادة السياسية الموحدة بين العراق والجمهورية العربية المتحدة، ورئيس اللجنة التحضيرية لإعادة بناء الاتحاد ألاشتراكي العربي، وساهم في تلطيف الأجواء بين الحكومتين العراقية والإيرانية بعد قطيعة استمرت لسنوات، وسجن عدة مرات لمواقفه الوطنية، وله الكثير من المؤلفات أهمها: مؤلفاته
وبسبب معارضته للنظام البائد وتنديده به في مؤتمر الخلافة الإسلامية الذي عقد في الأردن، ورفضه المشاركة في المؤتمر الإسلامي الذي حاول النظام القفز من خلاله على الواقع وتبرير جرائمه، قام الجلاد باستدعائه إلى القصر الجمهوري وسقاه السم، وبعد عودته من المقابلة بساعات سقط فاقدا للوعي ونقل إلى مستشفى مدينة الطب وتوفي بعد أيام متأثرا بسم الثاليوم حسب التقرير الطبي الذي أملاه أحد الأطباء الأجانب ممن يرتبطون بعلاقة مع نجله الدكتور زهير محيي الدين، وكانت وفاته عصر يوم 27-4-1983.
وقد أقيمت له مهرجانات تأبينه في بغداد والقاهرة وعمان وسوريا والمغرب، وكتبت عنه عشرات القصائد والمقالات والبحوث، وقد قام نجله الفضل الأستاذ أوس محيي الدين بجمعها في كتاب، نشر ضمن كتاب الأسرة تحديث الحديث.