رسائل الهمذاني

د . صباح ايليا القس

الرسائل فن أدبي ظهر في العصر العباسي وارتفعت قيمته وذاع صيته اذ تبناه خيرة كتاب ذلك العصر , والرسائل تشتمل على اغلب الموضوعات التي عالجها الشعر حينها .. وقد غلب عليها طابع الاخوانيات فكان الادباء يتبادلون مثل هذه الكتابات وفيها يستعرضون الطاقات والقدرات الفنية والابداعية لا سيما الفنون البلاغية والكلامية وهذا يعني ان الرسائل صناعة ايضا بل هي صناعة اكيدة لاسيما اذا سلط عليها الاديب فكره والتمس لهذه الفكرة ما يناسبها من وسائل البيان حيث يتبارى مع نفسه اولا ومع الآخرين من الكتاب في احيان اخرى اذ يمكن ان تأخذه افكاره الى موضوعات متقاربة فيغذيها ببدائع التصوير ويتمثل لها ما شاء من الآيات او الاحاديث او الاشعار او المقاطع المعروفة والقارئ يتابع ما تجود به افكار الكاتب متعجبا من الطاقات الخلاقة والالفاظ البراقة .

والرسائل ليست المكاتيب التي كنّا نتراسل بوساطتها مع المعارف والاهل قبل ظهور المخترعات الحديثة فهي فضلا عن إشتمالها على بعض الاخوانيات لكنها لا تخلو من مدح وهجاء و وصف وعواطف اخوانية ولكن بلغة بيانية بلاغية حيث خرجت من الخصوصية الى التوثيق الادبي واصبحت تلك المراسلات مصادر للدراسات الادبية بل انها درست بوصفها فنا ادبيا نثريا جديدا غير معروف سابقا .

ويمكن ان يدعي أحد ان هناك مراسلات موثقة بين الرسول ( ص ) وملك الروم وهناك مراسلات بين الخلفاء والولاة والقواد وكذلك نرى ذلك عند خلفاء الدولة الاموية .. ولكن تلك الرسائل كانت رسائل إبلاغية محددة الهدف قليلة الكلام كثيرة المعنى وتسمى في اللغة الادبية الآن ( التوقيعات ) وربما يتاح لنا الوقت للكتابة عن هذا الموضوع ايضا والتوقيعات التي ذكرناها هي ليست الرسائل المعروفة بالتأكيد ولا يمكن ان يغفل عنها القارئ اللبيب ..

تخرج الرسائل عن حدود الاخوانيات الى مقام الخلفاء والامراء والقواد وفيها يكون التعبير دقيقا سليما بليغا يستعين فيه الهمذاني وغيره بما تختزنه الحافظة من افكار وصياغات وابداعات وفنون بلاغية وصياغات ينفرد بها لكي يجلب انتباه المقصود بالرسالة وحتما كان الكاتب يسعى الى التكريم ومن المهم الاشارة هنا ان خلفاء وقادة ذلك الوقت كانت لهم علوم في الادب والشعر والدين والفلسفة بحيث يستطيعون معرفة القيمة الابداعية التي تشتمل عليها الرسالة وربما على قدرة الابداع تكون المكافأة ..

يقول الهمذاني في السلاطين ( وقد علم الشيخ ان ذلك السلطان سماء , اذا تغيّم لم يرج صحوه , وبحر اذا تغيّر لم يشرب صفوه , وملك اذا سخط لم ينتظر عفوه , فليس بين رضاه والسخط عرجة , كما ليس بين غضبه والسيف فرجة ) .

وكتب الى احد القضاة يقول : ( فولي المظالم وهو لا يعلم اسرارها وحمل الامانة وهو لا يعرف مقدارها , والامانة عند الفاسق , خفيفة المحمل على العاتق , تشفق منها الجبال , وتحملها الجهال ) .

وفي مجال الهزل كتب الى احد اصدقائه يطلب بقرة يقول : ( وقد احتيج في الدار الى بقرة يحلب درها , فلتكن صغوفا تجمع بين عقبين في حلبة , كما تنظم بين دلوين في شربة , وليملأ العين وصفها , كما يملأ اليد خلفها ) ..

والهمذاني في الامثلة المتقدمة لم يكن متكلفا مصطنعا في بيانه اذ تنساب العبارات عنده من دون جهد في تركيب الالفاظ او اختيار السجع الذي يكاد يلازمه في اغلب رسائله وهذا لا يكون الا لمن اشتمل على كثير من المعرفة الادبية والكلامية والبلاغية وغيرها من علوم الادب في ذلك العصر .

ان الرسائل فن صعب على المعاصرين ولا أظن ان احدا من الادباء المعاصرين سيجازف ويكتب رسالة بهذه الرصانة والقوة والحافظة والابداع .

قد يعجبك ايضا