سردار علي سنجاري
لكل شعب ثقافته الخاصة التي اكتسبها من تأريخه وحضارته وبيئته . وربما بعض الشعوب كانت في الماضي أكثر قوة من الوقت الحاضر وكانت تمتلك القدرة في السيطرة على العديد من الشعوب مما جعلها قادرة على مواجهة التحديات الثقافية والاجتماعية التي كانت سائدة في تلك العصور وصنعت لنفسها مكانة خاصة في التأريخ ولكنها لم تستطيع البقاء في مكانها لأستخدامها القوة الصلبة . وغالبية الشعوب او الحضارات التي اندثرت استخدمت في بقائها القوة الصلبة التي حققت لزمن ما إنجازات كبيرة وعظيمة ماتزال آثارها ملموسة في حاضرنا ولكنها اندثرت مع مرور الزمن . ولكن بعض الشعوب قامت على اسس مختلفة ونشأت بأساليب مختلفة واستخدمت في تعاملها مع ذاتها والأخرين سياسة ناعمة حيث اعتمد على القوة الروحية والمعنوية والثقافية في تأريخها وجسدت افكارها ومبادئها واخلاقها وقيمها من خلال تعاملها مع ذاتها والآخرين بطريقة إنسانية تضمن للمجتمع والأفراد حقوقهم الانسانية وكذلك تعمل من اجل ترسيخ البنية التحتية ودعم الثقافة مما يعني انها تضع العالم إلى احترام تلك القيم حتى مع هؤلاء الذين نختلف معهم في المباديء .
والكورد احدى تلك الشعوب الذين لم يستخدموا القوة المفرطة في التعامل مع الآخرين على مدى التأريخ وانما تعرضوا عبر التأريخ إلى الظلم والإضطهاد والعنصرية مما دفعهم إلى حماية انفسهم من تلك الهجمات بأساليب مختلفة وأغلبها كانت في اللجوء إلى الجبال حتى اصبح المثل الشائع بين الكورد ان لا صديق للكورد إلا الجبال .
وبالرغم من كل أنواع الإضطهاد الذي واجهه الكورد وبالأخص في القرن الماضي حيث تم تقسيم موطنهم إلى اجزاء بين ثقافات ودول مختلفة وتعرضوا خلال تلك الحقبة ومازالوا يتعرضون للتمييز والعنصرية وارتكبت بحقهم العديد من المجازر التي تندى لها جبين الإنسانية إلا انهم كانوا دوما يبحثون عن الوفاق والتقارب بينهم وبين الشعوب الأخرى . وعند انبثاق الفكر القومي الكوردي في بدايات القرن الماضي كان الكورد كغيرهم من الشعوب التي حمت نفسها تحت شعار وفكر القومية يبحثون عن تشكيل تنظيم سياسي يطالب بحقوقهم ويناضل من اجل نيل اهدافه وطموحاته . الانطلاقة الأولى كانت من خلال المفكرين والسياسيين ودعاة الحوار الثقافي وسعت تلك القوة في البحث عن الوفاق بين الكورد والشعوب الأخرى وان لايكون الاختلاف خلافا انما تنظر إلى علاقتنا بالآخر المختلف باعتباره شرطا من شروط وجودنا لأن اي مجتمع لا يستطيع العيش دون علاقات مع المجتمعات الاخرى حتى وان كانت تختلف معها بالعرق واللغة والمعتقد والثقافة .
في تلك المرحلة الهامة من تأريخ شعوب الشرق الأوسط تحديدا انبثق الحزب الأكثر شعبية في تأريخ الأمة الكوردية المعاصر، الا وهو الحزب الديموقراطي الكوردستاني الذي أسسه الزعيم الأسطورة الخالد الملا مصطفى البارزاني في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي ليكون الحزب الثوري والسياسي والموجه الثقافي للشعب الكوردي. ومنذ انطلاقته تبنى الحزب الديموقراطي الكوردستاني النهج السلمي في التعامل مع القضايا التي يرى من خلالها تحقيق أهدافه لأنه لم يتأسس من اجل القتال انما من اجل نشر الديمقراطية والمطالبة بالعدالة الإجتماعية وتحقيق الحرية والمساواة لجميع ابناء الشعب العراقي. ولكن تلك المفاهيم والقيم والمبادئ التي طرحها الحزب لم تلقى قبولا في الأوساط السياسية للدولة العراقية انذاك ورفضت تلك المطالب المشروعة . ولكن الحزب بالرغم من الضغوطات التي مورست عليه للعدول عن نهجه الإنساني والديمقراطي أصرّ على استخدام القوة الناعمة في التعامل مع تلك المواقف المعادية له .
كانت فكرة الحزب الديموقراطي الكوردستاني منذ نشأته في استخدام القوة الناعمة لإيمانه انها القوة الفاعلة في التواصل مع الأطراف الأخرى لأنه يمتلك القناعة ان لا خلاف بين الشعبين الكوردي والعربي بل العكس جمعهم تأريخ ودين وجغرافية مشتركة عبر قرون عديدة ولم يدون في سجل اي منهم اعتداءات على الآخر انما امتزجت دماء الشعبين في محاربة المحتل . هذه السياسة التي قوبلت جماهيريا وبدات الأوساط السياسية في العراق تراقب ردود فعل الشارع العراقي الذي عبر عن تأييده لمطالب الكورد وبالأخص المثقفين و الأدباء والمفكرين . في البداية فكرت القوى الحزبية و السياسية العراقية من خلال متابعتها لمراكز الأبحاث ومفكريها في كيفية مواجهة المطالب الكوردية دون اللجوء إلى استخدام القوة الصلبة وهو ما افرز منذ ثورة ١٤ تموز نمطاً جديداً من أنماط التعامل مع القضية الكوردية باعتبار الشعب الكوردي هو شريك في العراق وهنا برزت معالم القوة الناعمة التي تبناها الحزب الديموقراطي الكوردستاني وتم استبعاد المواجهة العسكرية بين الجانبين وبدأت تظهر على الخارطة السياسية العراقية معطيات جديدة قلبت منطق العلاقات وطبيعة الصراع وتقلصت في بداية الثورة الفوارق الاعتقادية بين الجانبين . ولكن عندما ثبتت القيادة العراقية الجديدة اقدامها وتحكمت في مفاصل البلد ومقدراته بدأت تبتعد عن النهج الذي اتخذته مع القيادة الكوردية والملا مصطفى البارزاني وحزبه مما جعل المواجهة العسكرية امراً محتوما ومؤسفاً بين الجانبين .
وبالرغم من اضطرار الكورد الى استخدام القوة الصلبة مع الحكومات العراقية المتعاقبة إلا ان تلك القوة كانت ترافقها دوما السياسة الناعمة من الجانب الكوردي في تخفيف حدة الصراع بين الجانبين فكانت المفاوضات والتفاهم بين الجانبين مستمرا دون انقطاع . السياسة الناعمة للحزب الديموقراطي الكوردستاني أعطت مع مرور الزمن نتيجة من خلال الجاذبية والتأثير في وقت واحد وهو مالا تستطيع القوة الصلبة تحقيقه.
واليوم وبفضل تلك السياسات المرنة التي تبناها الحزب الديموقراطي الكوردستاني ونبذه لاي فكر عنصري او شوفيني يصنف من اعرق الأحزاب السياسية في الساحة الدولية عامة والشرق اوسطية خاصة وحظي قادته باحترام الشعب العراقي باختلاف مكوناتهم و كذلك شعوب العالم الحر حيث اثبت التأريخ المعاصر للحزب الديموقراطي الكوردستاني ان استخدام السياسة المرنة والقوة الناعمة يمنح الشعوب مكانة كبيرة وهامة ويحظى باحترام دولي وشعبي مالا تستطيع القوة الصلبة تحقيقه.