د. دلدار فرزنده زيباري
عميد كلية عقرة التقنية – جامعة عقرة للعلوم التطبيقية
شهد الشرق الأوسط منذ عقود توازنات دقيقة حالت دون انفجار صراع مباشر بين القوى الإقليمية الكبرى، خاصة إيران وإسرائيل. لكن أحداث 7 أكتوبر 2023 وما تبعها من تطورات متسارعة أدت إلى انهيار سياسة “حروب الوكلاء”، وانتقال المواجهة إلى طور مكشوف يستهدف قدرات الدول وبُناها الاستراتيجية. هذا التحول يضع المنطقة برُمّتها أمام مصير غير مسبوق، وقاعدة سؤال مصيري: إلى أين يتجه الشرق الأوسط في ظل تآكل الخطوط الحمراء التقليدية وصعود قوى جديدة وتغير موازين المصالح؟
من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة: ديناميكيات الصراع الجديد
على مدى سنوات طويلة، اعتمدت إسرائيل وإيران سياسة “ضبط النفس الاستراتيجي”، وتجنب المواجهة المباشرة عبر شبكة من الوكلاء (كحزب الله في لبنان وحماس في غزة). غير أن تصعيد حماس الأخير غيّر قواعد اللعبة، فدفعت إسرائيل نحو استراتيجية “استئصال الأخطبوط” بتوسيع العمليات ضد مواقع النفوذ الإيراني من غزة وسوريا وحتى العمق الإيراني.
يرافق هذا التحول سباقٌ تقني وعسكري متسارع في المجالات النووية والصاروخية، عجزت معه منظومات الردع الكلاسيكية عن استعادة الهيبة الإسرائيلية أو احتواء الطموح الإيراني. وهكذا، تبرز أمامنا حقبة صراع مفتوح سمته: استعداد الطرفين لدفع أثمان باهظة سياسياً وبشرياً واقتصادياً ـ وما كان يعد سابقاً “خطاً أحمر” بات اليوم موضع اختبار فعلي.
مميزات المواجهة الراهنة: معادلات جديدة في الربح والخسارة
تبرز هذه المواجهة بجملة سمات تستحق الوقوف عندها:
- رفع سقف التضحيات: لم تعد الحكومات مهددة بالسقوط سريعاً مع ارتفاع الخسائر، بل أظهرت مرونة نسبية في تحمل ضغوط شعبية وتداعيات أمنية خطرة.
- استهداف المراكز الحيوية والمدن: توسع العنف ليطال عمق الدول ومراكزها الحيوية، مع تهديدات متبادلة تطال العواصم والبنية التحتية العسكرية والمدنية.
- انفراط قواعد الردع التقليدية: انزلاق الطرفين نحو ما يشبه “الحرب الوجودية”، وسط هشاشة التفاهمات السابقة وضعف قدرة الأطراف الدولية على التدخل السريع والحاسم.
- ديناميكية الحرب المفتوحة: الحروب تفرض منطقها الذاتي عند انطلاقها، وقد تحمل نتائج غير متوقعة تتجاوز أهداف أصحاب القرار، كما حصل مرات كثيرة في التاريخ الحديث للمنطقة.
تداخل اللاعبين الإقليميين والدوليين: آفاق التسوية وضغوط الانفجار
تبرز في خلفية هذا الصراع مشاهد التعقيد المتزايد، بفعل محدودية قدرة الأطراف على تحقيق “الضربة الحاسمة”، وضغوط المشهد الدولي (تراجع دور واشنطن تدريجياً، وحضور موسكو وأوروبا المتردد) الذي يحاول تجنُّب توسع الحرب إلى دوائر أشمل.
يبقى خيار التسوية مفتوحاً خاصة مع تصاعد تكاليف الحرب، ولكن واقع “معادلة الردع المتبادل” يُبقي على احتمالات عودة الانفجار في كل لحظة، ما دامت القضايا الجوهرية ـ كمصير النفوذ الإقليمي والملف النووي والقضية الفلسطينية ـ معلقة بلا حلول. ويبقى الرهان الأكبر على وعي شعوب المنطقة، التي تتطلع إلى الاستقرار والتنمية وسلام دائم ـ وهو تطلع يتسق مع نهج إقليم كوردستان في الدعوة للحلول السلمية وترسيخ التنمية بدلاً من الصراعات المدمرة.
رؤى لمستقبل المنطقة: بين الخرائط الإسرائيلية، والمقاومة الإيرانية، وطموح الشعوب
تسعى إسرائيل ـ كما يظهر من تصريحات قادتها ـ إلى فرض وضع جيوسياسي يكرّس هيمنتها ويحول دون مشروع الدولة الفلسطينية ويمنع تمدد النفوذ الإيراني. في المقابل، ترفع إيران راية “دعم المستضعفين” وتعزيز تحالفاتها الإقليمية الميليشياوية.
لكن وجدان الشعوب في المنطقة ـ ومنها شعب كوردستان ـ ما يزال يراهن على مستقبل مختلف: شرق أوسط مستقر ومزدهر، بعيداً عن مشاريع الهيمنة أو التمدد الأيديولوجي. وقد أثبت النموذج الكردستاني ـ القائم على التنمية، والانفتاح، والشراكة ـ أن ثمة طريقاً بديلاً عن إدامة الحروب والمواجهات العبثية.
دروس الحروب والتحالفات الكبرى: “فخ ثيوسيديدس” وتحدي التعايش الإقليمي
تخبرنا العلوم السياسية عبر نظرية “فخ ثيوسيديدس”أن صعود قوى جديدة غالباً ما يُصعّد احتمالات الحرب مع القوى التقليدية. ففي المنطقة اليوم، يقف الكل على عتبة مواجهة قد تتحول إلى صراعات متعددة الأبعاد، ليس بين الدول وحدها بل داخل مجتمعاتها وحول هوياتها ومشاريعها.
غير أن الرد الإيراني الفاعل على الضربات الإسرائيلية، ونجاحه في تهديد العمق الإسرائيلي عسكرياً، أدخلا المنطقة في نمط توازن جديد أقرب إلى “توازن الرعب” منه إلى حسم طرف واحد، مما أعاد الدبلوماسية لواجهة البحث عن حلول.
مخاطر الفوضى الخلاقة وإعادة رسم الخرائط
إذا كانت الحروب الكبرى تنتج هزات عنيفة فغالباً ما تقود لاحقاً لترتيبات إقليمية جديدة. إلا أن البديل المرعب يظل “الفوضى الخلاقة” ـ أي تفتت الدول، وتصاعد الأزمات الاقتصادية، وتحول الهويات إلى أدوات نزاع. لكن ثمة نافذة، ولو ضيقة، تتيح انتقال المنطقة إلى مضمار التسويات وتشارك التنمية، شرط توفر خيارات عقلانية وإرادة سياسية جادة. إن تجربة كوردستان العراق في البناء المؤسساتي والتعددية السياسية ومصالحات ما بعد الحرب دليل مهم على قدرة الشعوب الفاعلة على إدارة التحولات الكبرى وتحويل التهديدات إلى فرص.
سيناريوهات المستقبل: ثلاثة مسارات محتملة
- التصعيد المستمر: إذا غابت قدرة الدول الكبرى والأطراف المحلية على ضبط الإيقاع، قد تتواصل جولات المواجهة وحروب الوكلاء، بكل ما يعنيه ذلك من كلفة بشرية واقتصادية وتداعيات سياسية.
- توازن الردع القلق: يدفع الثمن الجميع، وترتسم خطوط تماس جديدة، مع استمرار الأزمات، لكن دون انفجار شامل، بما يشبه معادلة الردع الكوري أو الحرب الباردة المصغرة.
- التسوية التاريخية: سيناريو صعب لكنه ممكن، إذا فرضت تداعيات الحرب وضغوط المجتمعات والدول اقتناص فرصة الحوار الشامل، وهنا تصبح تجربة كردستان ـ القائمة على أسس الحوار والشراكة والبحث عن حلول عقلانية ـ نموذجاً يمكن أن يُحتذى به.
خلاصة: خيارات المنطقة بين العنف المتجدد والتسوية المنشودة
من يراجع التاريخ القريب يدرك أن المنطقة تقف كل مرة أمام مفترق طرق: فإما دورة عنف جديدة تجلب الدمار والفوضى، وإما فرصة نادرة لبناء نظام إقليمي قائم على التوازن والتنمية والتعايش والسلام. إن نجاح الفاعلين ـ الإقليميين والدوليين ـ في اغتنام لحظة التاريخ قد يجعل من حروب اليوم ذكرى، ويفسح الطريق أمام شرق أوسط جديد، هو حلم كل الشعوب، وأساس سياسة الانفتاح والتطوير التي تؤمن بها القيادة الرشيدة في إقليم كردستان العراق.