ماهين شيخاني
كاتب من كوردستان سوريا
بين حينٍ وآخر، يطفو على السطح خطابٌ إعلاميّ يمعن في نفي وجود الشعب الكوردي في سوريا أو يشكك في شرعية مطالبه وحقوقه، كما فعل الكاتب إبراهيم الجبين في مقالةٍ أخيرةٍ له حين ادّعى أن الكُورد ليسوا أبناء الأرض السورية، بل دخلاء قَدِموا إليها في القرن العشرين.
مثل هذا الطرح لا يعكس جهلًا فحسب، بل يحمل أيضًا نَفَسًا إقصائيًا، يطمس الحقيقة لصالح رواية سلطوية باتت مفضوحة في نظر التاريخ والجغرافيا والواقع المعاش.
ذاكرة الأرض لا تُزوَّر
من عفرين إلى ديريك، ومن الدرباسية إلى الحسكة، يمتد الحضور الكوردي في شمال سوريا كشاهدٍ على تاريخ طويل من التفاعل مع هذه الأرض، بل ومن المساهمة في بنائها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
لم يكن الكورد يوماً وافدين طارئين أو ضيوفاً مؤقتين، بل كانوا جزءاً أصيلاً من نسيج البلاد، قبل نشوء الدولة السورية نفسها، وقبل ترسيم الحدود الاستعمارية في سايكس-بيكو.
يكفي العودة إلى أسماء المدن والقرى والجبال والأنهار، وإلى التراث الشفهي واللغوي الكوردي العميق المتجذر في هذه المنطقة، لندرك بطلان فرضية “الدخول المتأخر”.
وحتى من يقرأ الوثائق العثمانية والفرنسية، يلاحظ بوضوح أن الكورد كانوا موجودين بأعداد كبيرة في هذه المنطقة منذ قرون، ولهم زعاماتهم القبلية، وشيوخهم، ومدارسهم الدينية، وأسواقهم.
لماذا يُزعجهم الكورد؟
ربما لأن الكورد في سوريا لم يخضعوا بالكامل لمنطق “الذوبان”، بل قاوموا مشاريع التعريب القسري، وبقوا متمسكين بلغتهم وهويتهم رغم كل أشكال القمع: من حرمان الجنسية، إلى منع الأسماء، إلى الاعتقالات الجماعية، إلى المجازر كما في انتفاضة 2004.
هنا، يكمن جوهر المعضلة: الكورد ليسوا عبئاً على الدولة، بل كانوا دوماً هدفاً لسياسات نَفَتْهم من الدولة ومن ذاكرة البلاد.
ما يؤلم هؤلاء المنكرين ليس “الانفصال”، بل إصرار الكورد على أن يكونوا شركاء حقيقيين في وطن ديمقراطي يتّسع للجميع.
وهذا ما حاولت قوى الأمر الواقع في دمشق طمسه طوال عقود، بتحويل الكورد من شعبٍ إلى مجرد “رعايا” بلا حقوق.
بين الوطنية وشيطنة المطالب
لطالما نادى الكورد في سوريا بحلولٍ ديمقراطيةٍ لا تتناقض مع وحدة البلاد، مطالبين بالاعتراف الدستوري بلغتهم وهويتهم، وبتوزيع عادل للثروات والسلطة.
ومع ذلك، ما إن يطرح الكورد الفيدرالية أو الإدارة الذاتية كأداة لحماية التنوع، حتى تُطلق عليهم اتهامات “التقسيم والانفصال والعمالة”.
الرد الجاهز: “سوريا واحدة موحدة”، لكن هذه الوحدة لم تكن سوى قناعٍ لسلطةٍ تحتكر كل شيء، وتقمع من يختلف، وتقصي من لا يشبهها.
فهل يكون مطلب الاعتراف بالذات خيانة؟ وهل تكون لغةُ الأم مؤامرةً؟ وهل يتحول ضحايا الإنكار إلى جناة فقط لأنهم نطقوا بالحقيقة؟
تفكيك الخطاب لا كراهيته
من الخطأ تحويل السجال مع إبراهيم الجبين أو غيره إلى سجالٍ شخصي. القضية ليست الكاتب، بل ما يُمثّله من تيار لا يعترف إلا بسردية واحدة، ويُقصي الكورد من التاريخ، ويعاملهم كأجسام غريبة تحتاج إلى “تطهير ثقافي”.
هذا التيار، وإن لبس لبوس الثقافة، إلا أنه ليس بريئًا من خطاب الدولة الأمنية التي جرّدت الملايين من الكورد من أوراقهم وأسمائهم وحقهم في الوجود.
من المهم أن نردّ على مثل هذا الخطاب، لا بغرض الصراع، بل لأن تفنيد الأكاذيب ضرورة لحماية السردية العادلة، وإحقاق حق شعبٍ ما زال يُتهم بجريمة أنه موجود.
الكورد ليسوا ظلاً لأحد
إن الدفاع عن الكورد ليس انحيازًا قوميًّا ضيقًا، بل وقوفٌ إلى جانب الحقيقة ورفضٌ لاغتصاب التاريخ.
من يريد سوريا موحّدة حقاً، عليه أن يعترف بكل مكوّناتها.
فالشراكة لا تُبنى على الإنكار، بل على الإقرار بالمظلومية والعمل على معالجتها لا تسويقها كـ “امتياز”.
ولا يمكن بناء وطنٍ عادل، بينما لا يزال شعبٌ كامل يُوصم بأنه “وافد” في أرضٍ كان جزءاً من جغرافيتها قبل أن تولد “سوريا الحديثة” نفسها.