حسن نوری
تتمخض عن كل حرب، مهما كانت بشاعتها، مجموعة من النتائج الإيجابية على المدى البعيد. وقد شهد التاريخ الحديث نماذج عديدة لذلك: ما بعد الحربين العالميتين، والحرب العراقية–الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، وحتى الحروب قصيرة الأمد مثل حرب الأيام السبعة. أهم ما تتمخض عنه هذه الحروب هو تكوين “مناعة سياسية” داخل جسم الدولة، تجعلها أكثر حذرًا في خوض صراعات جديدة، وتميل أكثر إلى العقلانية، وتجنّب الصلف والبلطجة، والبحث عن سبل سلمية للتعايش، وقبول الاختلاف. الشعوب التي تجرّعت مرارات الحروب تتعلم أن يومًا واحدًا من السلام لا يعوّضه قرن من النزاعات. الظروف القاسية تزرع في الوعي الجماعي قدرة على التكيف والبناء: كيف يُذخّر الغذاء؟ كيف تُستثمر الطاقات البشرية والمالية؟ كيف يُبنى المستقبل على أنقاض الرماد؟ أوروبا واليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، تقدمان أوضح مثال على ذلك؛ فقد تمكّنتا في فترة قصيرة من تجاوز دمار الحرب، وبناء مجتمعات مزدهرة ومؤثرة على الساحة الدولية. ورغم أن الحرب تظلّ ظاهرة تاريخية يصعب تفاديها أحيانًا، فإننا نملك القدرة على إدارتها وتحييد آثارها. من هنا، تَبنّي الولايات المتحدة لمبدأ “السلام عبر القوة” يبدو متلائمًا مع الواقع السياسي والاجتماعي الراهن في الشرق الأوسط، لا سيّما في ظل هشاشة المؤسسات، وتغوّل الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون. إنّ ما تحتاجه شعوب الشرق الأوسط اليوم، وخاصة تلك التي تعاني من غياب الدولة أو هشاشة مؤسساتها، هو إرادة دولية، وتحالف صادق بين الخيرين، لمساعدتها على استعادة زمام المبادرة، وتشكيل جيوش وطنية قوية، تكفل فرض القانون، وتضمن السلام. لقد آن الأوان لوضع حد لتغوّل الميليشيات، والانتقال من مرحلة الفوضى المسلحة إلى مرحلة الدولة الراسخة. ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون رؤية جديدة تتجاوز اتفاقية سايكس بيكو، التي أصبحت قاصرة عن استيعاب متغيرات العصر ومتطلبات العدالة. نحتاج إلى اتفاقية حديثة، قائمة على العدالة والشراكة الحقيقية بين المكونات، تكفل الأمن والازدهار لكافة شعوب المنطقة، وبالأخص الأمم المحرومة من حق تقرير المصير، كالكرد والدروز وغيرهم من الشعوب المهمّشة. ننظر اليوم إلى ما يجري في المنطقة من صراعات متجددة بقدرٍ من الأمل، لعلها تكون المخاض الأخير قبل ولادة شرق أوسط جديد، أكثر استقرارًا، تحكمه الدولة لا الميليشيا، والعقل لا البندقية، والعدل لا الغلبة.