عن المدن التي تُطفئ مصابيحها كلما أضاء أحدهم

بولص آدم

ثمة مدن، كلما وُلد فيها صوت جديد، مختلف، مشعّ، سارعت إلى إطفاء المصابيح من حوله. لا لشيء، إلا لأن الضوء يُحرج العتمة، ولأن الأصوات التي تأتي من الأعماق تهز استقرار الزيف الذي أُلف، وتكشف هشاشة ما اعتُبر راسخاً.

في كثير من البيئات الثقافية، تتكرر هذه الظاهرة المحيّرة والمؤلمة: كلما كان المبدع أكثر صدقاً وابتكاراً، واجه صمتاً أثقل، وتهميشاً أشد، من أولئك الأقرب إليه. لا يُحتفى به حيث نشأ، ولا يُثمَّن عمله في فضائه المحلي، حتى وإن بلغ صوته مسامع العالم. وكأن الجِدّة تثير حفيظة المؤسسات والمجتمعات أكثر مما تثير إعجابها، وكأنها نوع من “الإحراج الإبداعي” لا يُغتفر.

المفارقة أن الخذلان لا يأتي من بعيد، بل من أقرب النقاط: من زملاء الدرب، من حراس المشهد الثقافي، من الأطر التي تدّعي دعم الفن والفكر، لكنها تنزعج سرًّا من كل من لا يشبهها. يحدث نوع من “الإنكار الداخلي” للمبدع حين لا يتناغم مع الصورة التي رسموها له، أو حين يكشف، بموهبته، عن خواءٍ مسكوت عنه. وكأن المجتمع لا يريد من يصيغه من جديد، بل من يُردّد ما تعوّد عليه بأناقة زائفة.
هذه المفارقة ليست جديدة، لكنها تعمّقت في زمن صار يحتفي بالصوت العالي لا العميق، بالوميض لا بالجمر، بالسهل القابل للاستهلاك لا بالأسئلة المُقلقة. فالمبدع، حين يصير مرآة لحقيقة لا يُراد الاعتراف بها، يُقصى بهدوء، يُحاصر بنسيانٍ صامت، أو يُتهم بأنه يغرّد خارج السرب. والمجتمعات، كالأفراد، قد تصاب بالغيرة. حين يكتب ابن المدينة عنها بجرأة، لا يُنظر إليه كمحبٍّ صادق، بل كخائن رمزيّ، يُعكّر صفو السرديات الرسمية.

المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، حين تحدّث عن “المثقف العضوي”، أشار ضمناً إلى هذا الإقصاء المنهجي. فالمثقف، حين يكون متجذراً في واقعه، ومعبّراً عنه بلغة حية ومقلقة، لا يلقى غالباً الترحيب، بل يُنظر إليه كمن يكسر الإجماع أو يهدد البنى المستقرة. ولهذا السبب، كثير من المبدعين في التاريخ لم يُعترف بهم إلا بعد وفاتهم. بعضهم لم يعرف طعم الاعتراف مطلقاً. وكأن التقدير لا يُمنح إلا حين ينتفي خطر السؤال الذي يطرحه العمل الإبداعي.

ليس أدلّ على هذا من تجربة الشاعر الروسي يوسف برودسكي، الذي واجه الطرد من مدينته التي أحبّها وعاش فيها، فقط لأنه كتب بحرية، وشكّل، بقصيدته، صوتاً لا يمكن ترويضه. اتُّهم بالبطالة الفكرية، وبأنه “لا يعمل”، لأنهم لم يفهموا أن الشعر عمل ثقيل. لم يكن “الخارج” هو من لفظه، بل “الداخل”: المؤسسة، والمجتمع، و”الذوق العام” الذي لا يحتمل من يجرؤ على أن يقول: انظروا، هذا وجهنا الحقيقي.

إن جو المدن – بمعناه الثقافي والنفسي – قد يتحوّل إلى بيئة طاردة حين تعجز عن التفاعل مع المختلف والمُقلق. المدينة التي لا تحتفي بمبدعيها ليست فقط جاحدة، بل خائفة. فهي، دون أن تدري، تطفئ مصدر إشعاعها الأهم: الكلمة الصادقة، اللوحة الجريئة، النغمة التي لا تشبه ما سبقها. ومع كل موهبة تُقصى، يُخفت جزء من الروح العامة، وتصبح المدينة أبرد، أكثر شبهاً بمتحف يُجمّل صورته، لكنه خالٍ من الحياة.

ما يؤلم ليس غياب الجوائز أو الأوسمة، بل غياب الإصغاء. أن يشعر الكاتب أو الفنان أو المفكر أنه يكتب في الفراغ، أنه يُبدع دون أثر، فقط لأن ما يقوله يتجاوز المتاح أو المقبول. والخذلان، حين يتكرس، لا يصيب المبدع وحده، بل يصيب الأفق كله. لأن كل صوت يُقصى، هو جزء من المعنى يُفقد. وكل موهبة تُهمّش، هي خسارة خفية في رصيدنا الإنساني.

ومع ذلك، لا يتوقف المبدعون. يواصلون، كما يواصل الضوء إشعاعه حتى في الغرف المغلقة. ليس لأنهم ينتظرون التصفيق، بل لأن الكتابة، والرسم، والغناء أفعال، وجود. لكن يا لها من مفارقة، أن يُطفئهم أولئك الذين كان يُفترض أن يُضيئوا بهم. وكأن المدينة، كلما أضاء أحدهم فيها، ارتبكت، ثم هرعت لإغلاق النوافذ وإطفاء المصابيح.

قد يعجبك ايضا