سهاد طالباني
اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان نتيجة طبيعية لمسار طويل من التوترات المتصاعدة حول البرنامج النووي الإيراني. إسرائيل، التي طالما حذّرت من اقتراب طهران من “قدرة اختراق نووي” – أي امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووي خلال فترة وجيزة – وجدت اللحظة مناسبة لتوجيه ضربة استباقية حاسمة. أطلقت عليها “عملية الأسد الصاعد”، مدفوعة بمعلومات استخباراتية حديثة عن تسارع تخصيب اليورانيوم وتطوير مكونات نووية حساسة.
من وجهة نظر إسرائيل، كان لا بد من التصرف قبل فوات الأوان. لكن إيران لا ترى المسألة بهذه البساطة. في طهران، يُنظر إلى الهجوم باعتباره إعلان حرب يستهدف النظام نفسه، لا مجرد كبح طموحات نووية. القيادة الإيرانية تدرك أن التراجع سيُنظر إليه كضعف داخلي وخارجي، بينما الرد القوي قد يفتح الباب لتصعيد إقليمي مدمّر.
العمليات العسكرية التي شهدناها خلال الأيام الأولى كانت غير مسبوقة. الهجوم الإسرائيلي اتسم بالدقة والجرأة، مستهدفًا منشآت نووية ومواقع عسكرية، واغتيال شخصيات رئيسية في الحرس الثوري وعلماء نوويين. وقد اعتمد على ضربات جوية، طائرات مسيرة، واختراق أمني عميق. إيران ردّت بعملية أطلقت عليها “الوعد الصادق 3″، تضمنت إطلاق مئات الصواريخ والطائرات المسيرة. رغم ذلك، تصدت الدفاعات الجوية الإسرائيلية، بدعم أميركي، لمعظمها، فيما أدت تلك التي وصلت الى أهدافها من تحقيق دمار ملحوظ واصابات.
اللافت هنا أن ميزان القوى الإقليمي لم يعد كما كان. إيران تدخل هذه الحرب وهي في أضعف حالاتها منذ عقود: اقتصاد منهار، بنية عسكرية مستهدفة، وحلفاء مثل حزب الله وحماس في حالة إنهاك. في المقابل، تحظى إسرائيل بدعم سياسي وعسكري أميركي واضح، رغم تردد واشنطن في الانخراط المباشر. بل إن الانقسام داخل الإدارة الأميركية وحول ترمب نفسه بشأن حدود هذا الدعم بدأ يظهر إلى العلن.
ومن جانبها، اتخذت واشنطن احتياطات واضحة، من تحذير إيران بعدم استهداف قواعدها، إلى سحب بعض قواتها من العراق والخليج. كل ذلك وسط قلق واضح من انزلاق الحرب إلى نزاع إقليمي أوسع.
وبالنظر إلى مسار الحرب بين إسرائيل وإيران، تبدو المرحلة القادمة مفتوحة على ثلاثة سيناريوهات رئيسية، لكل منها تبعاته وتحدياته. السيناريو الأول هو استمرار التصعيد. وفي هذا السيناريو، تمضي إسرائيل قدمًا في تنفيذ ستراتيجيتها المعلنة للقضاء على “الخطر الإيراني”، وهو ما يعني أن الضربات لن تتوقف عند حدود المنشآت النووية أو المواقع العسكرية، بل قد تمتد لتشمل بنى تحتية أوسع، وحتى مواقع تابعة لحلفاء إيران الإقليميين. استمرار التصعيد يعني أن المنطقة ستشهد موجات متتالية من الضربات المتبادلة، سواء مباشرة أو عبر وكلاء الطرفين في لبنان، سوريا، العراق، وربما اليمن. وتكمن خطورة هذا السيناريو في اتساع رقعة المواجهة وتحولها إلى حرب استنزاف مفتوحة، خاصة مع سعي إيران إلى إثبات قدرتها على الرد، رغم الضغوط الداخلية والانهاك الاقتصادي.
السيناريو الثاني يتمثل في احتمالية التدخل الأميركي المباشر إذا تطورت الأحداث بشكل يستهدف مصالح الولايات المتحدة أو أدى إلى مقتل جنود أو مدنيين أميركيين، فإن إدارة واشنطن، رغم تحفظها الحالي، قد تجد نفسها مجبرة على التدخل العسكري. التدخل قد يأخذ شكل ضربات دقيقة، أو تعزيز وجودها العسكري في الخليج، أو حتى المشاركة المباشرة في العمليات إلى جانب إسرائيل. هذا السيناريو يضع الولايات المتحدة أمام اختبار صعب، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية بشأن سياسة الشرق الأوسط، كما سيزيد من تعقيد المشهد الإقليمي ويضع إيران في مواجهة مباشرة مع أقوى قوة عسكرية في العالم. التدخل الأميركي المباشر يعني أن الحرب لن تبقى محدودة، بل ستأخذ طابعًا دوليًا أكثر خطورة.
أما السيناريو الثالث فقد يكون على شكل تسوية محدودة في حال شعرت إيران أن استمرار المواجهة يعرض النظام ذاته لخطر وجودي، فقد تلجأ إلى خفض التصعيد من خلال تنفيذ ردود رمزية تحفظ ماء الوجه داخليًا، ثم القبول بوساطات دولية. قد تشمل هذه التسوية وقف إطلاق النار مقابل ضمانات بعدم توجيه ضربات إضافية للمنشآت الحيوية أو للقيادة السياسية والعسكرية. هذا السيناريو لا يعني نهاية الأزمة، بل تعليقها مؤقتًا، وربما يكون مقدمة لمفاوضات جديدة بشأن النووي الإيراني أو الترتيبات الأمنية الإقليمية. إلا أن قبوله سيعد ضربة لهيبة النظام الإيراني، وسيفتح الباب أمام احتجاجات داخلية وتشكيك في قدرة طهران على حماية سيادتها.
كل سيناريو من هذه السيناريوهات يحمل مخاطر حقيقية، وليس هناك مسار آمن. المستقبل يعتمد على قرارات دقيقة في لحظات حساسة، وعلى قدرة الأطراف – خاصة القوى الكبرى – على كبح التصعيد قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة.
لكن الأهم من كل هذا، أن هذه الحرب أعادت صياغة قواعد الاشتباك في المنطقة. إسرائيل لم تعد تكتفي بسياسة الاحتواء، بل تبنّت ستراتيجية الهجوم الوقائي المباشر. أما إيران، فهي أمام معادلة صعبة: التصعيد مع مخاطره أو القبول بتسوية مذلة.
ولا يمكن إغفال المخاطر الأوسع مثل احتمال تدخل فصائل عراقية، اضطرابات في الخليج، تضرر سوق الطاقة، وارتدادات على الاقتصاد العالمي. أي خلل في الحسابات قد يحوّل النزاع إلى حرب إقليمية مفتوحة، بعواقب وخيمة.
في النهاية، هذه ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل صدام حول من يرسم مستقبل الشرق الأوسط. إسرائيل تفرض وقائع على الأرض، وإيران تحاول الحفاظ على ماء الوجه في ظل عزلة وعجز. وما بينهما، تقف القوى الكبرى أمام اختبار حقيقي: هل تملك القدرة على كبح جماح التصعيد، أم أنها فقدت زمام المبادرة؟