✦ ميلاد البارتي: حين انتقل الكورد من الوجدان إلى التنظيم ✦

ماهين شيخاني

تحلّ علينا الذكرى السابعة والستون لتأسيس أول حزب كوردي في سوريا، مناسبة ليست عابرة في تقويم شعبٍ يسكن التاريخ أكثر مما تسكنه الجغرافيا. ففي 14 حزيران 1957، خطا الكورد السوريون أولى خطواتهم نحو الفعل السياسي المنظم، حين أعلنت مجموعة من المثقفين والمناضلين الكورد عن تأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني – سوريا (البارتي).

لقد كان ذلك الميلاد نتيجة تراكم طويل من الوعي، والمظلومية، والطموح. كان ترجمة لحلمٍ قديم في الخروج من الظل، وتحويل الوجود القومي إلى برنامج سياسي واضح. وكان أيضًا أول ردّ حقيقي على سياسات الإنكار، والتجاهل، والتعريب القسري التي بدأت تباشيرها في خمسينيات القرن المنصرم.

◉ البدايات: دمشق… محطة للانبعاث القومي
رغم أن الجغرافيا الكوردية السورية تتركز في الشمال الشرقي، إلا أن العاصمة دمشق كانت، بشكل رمزي وفعلي، نقطة الانطلاق. من هناك، ومن حي “ركن الدين” تحديداً، خرجت الفكرة. كان الرفيق عثمان صبري – الذي يُلقّب بـ “آبو” – بمثابة الشعلة الأولى، المفكّر الذي جسّد الروح القومية بذكاء وهدوء وثبات.
وكان إلى جانبه ثلة من الرجال المؤمنين بحقوق شعبهم، من أمثال:

حميد حاج درويش
الشيخ محمد عيسى
رشيد حمو
حمزة نويران
محمد علي خوجة
خليل محمد
شوكت حنان

وفي وقت لاحق، انضم إليهم الدكتور نور الدين ظاظا، أحد أبرز الرموز الثقافية والسياسية في الحركة الكوردية.

◉ التأسيس: اجتماع 14 حزيران 1957

في هذا اليوم، اجتمع المؤسسون في دمشق، فيما اعتُبر لاحقًا أول اجتماع للجنة المركزية للحزب، حيث أعلنوا رسميًا تأسيس حزب سياسي كردي لأول مرة في سوريا. وقد جاء هذا الإعلان في وقت كانت سوريا تمرّ بتجربة ديمقراطية محدودة نسبياً (عهد الرئيس شكري القوتلي)، ما أتاح هامشاً بسيطاً من حرية التنظيم.

لكن لم يكن تأسيس الحزب قرارًا ارتجاليًا، بل نتيجة نضج موضوعي وذاتي، كان من أبرز أسبابه:

انتشار التعليم بين الشباب الكوردي.

الهجرة إلى المدن وتشكيل نواة مثقفة.

ارتفاع منسوب الوعي القومي، المتأثر بالحركات التحررية في كردستان العراق وتركيا.

سياسة الإنكار والتمييز التي دفعت الكورد للتنظيم الذاتي.

◉ البارتي… أكثر من حزب

لم يكن البارتي مجرد تنظيم سياسي، بل هو الهوية الكوردية في ثوب سياسي منظم. شكّل الحزب أول منصة للمطالبة بالحقوق القومية المشروعة لشعبٍ يُعتبر ثاني أكبر قومية في البلاد، دون أن يضعف ولاءه لسوريا كوطن مشترك.

رفع الحزب شعار “الديمقراطية لسوريا والحقوق القومية للكورد”، وكان هذا الشعار بمثابة خارطة طريق لا تزال قائمة حتى اليوم.

كما لعب البارتي دورًا مهمًا في:

صون اللغة والثقافة الكوردية.

تشكيل وعي سياسي جماعي بين الشباب.

بناء علاقات مع القوى الكوردية في الأجزاء الأخرى من كوردستان.

المشاركة في الحراك السياسي الوطني، رغم كل القيود والتهديدات الأمنية.

◉ على درب الاضطهاد… لكنه لم يتراجع
منذ لحظة التأسيس وحتى اليوم، تعرض الحزب والكوادر الكوردية عموماً لحملات قمع شرسة:

الاعتقالات المتكررة بحق القيادات.
الفصل من الوظائف.
نفي ونفي مضاد داخل المدن.
محاولات التشويه والتخوين من النظام السوري، ومن بعض القوى القومية الشوفينية.

لكن البارتي ظلّ صامدًا، يتطور حينًا، وينقسم أحيانًا، لكنه بقي نَفَسَ القضية الحية في سوريا.

◉ تحية للسابعة والستين
اليوم، ونحن نُحيي الذكرى الـ 67 لتأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني – سوريا، لا نحتفل فقط بتقويم سياسي، بل نستذكر لحظة وعي جماعي، محطة تاريخية قررت فيها نخبة من المناضلين أن تنقل الكورد من خانة “الأقلية المنسية” إلى فاعل سياسي في البلاد.

إنه تاريخ يجب أن يُكتب ويُدرّس، لأنه لا يمثل فقط قصة حزب، بل هو قصة شعب قرر أن يكون.

◉ تحية للمناضلين الأوائل
تحية لعثمان صبري، ذلك العجوز الوقور الذي أسّس أول صحيفة كوردية في سوريا (“دنك”)، وكان يملي على الرفاق البرامج بلغة صافية، وهو يردد أن “الكوردي لا يساوي شيئاً ما لم يكن منظمًا”.
تحية لكل الأسماء التي أنارت تلك اللحظة التاريخية.
تحية لكل المناضلين الذين واصلوا الطريق رغم الانقسامات والخذلان.
وتحية أكبر لشعبنا الكوردي، الذي لا يزال ينتظر الفجر، لكنه لم يتوقف عن السير.

قد يعجبك ايضا