بيتك يا سوداني من زجاج، فلا ترمِ بحصاك على الجبل

مهند محمود شوقي

من يتابع علاقة بغداد بأربيل خلال الأشهر الماضية، يدرك أن الأمور لم تعد خلافًا سياسيًا عابرًا، بل تحوّلت إلى معركة قمع ممنهجة، تستخدم فيها الحكومة الاتحادية كل أدوات الضغط الممكنة – من المال إلى النفط، ومن الرواتب إلى الحصص الدستورية – وكأنها في مواجهة مع كيان أجنبي لا مع جزء أصيل من العراق.
في بيان صريح، قالت حكومة إقليم كوردستان ما يردده الناس منذ سنوات: ما يجري هو قمع مستمر. ليس مجرد خلافات حول الموازنة أو تفاصيل قانونية، بل سياسات عقابية تهدف إلى كسر الإقليم سياسيًا وإضعافه اقتصاديًا، رغم أنه كان دائمًا عنصر توازن في العراق، وملاذًا آمنًا لعشرات الآلاف من النازحين، وخط الدفاع الأول ضد داعش.

السوداني، الذي وصل إلى السلطة بتوافق هش دعمته أربيل، يبدو اليوم وقد نسي الطريق الذي جاء منه. يلوّح بالعقوبات المالية، ويُراوغ في صرف الرواتب، بل ويمنع استئناف تصدير النفط، رغم اتفاقات معلنة وتعهدات دستورية واضحة. كيف لحكومة تقول إنها “تحكم باسم الدستور” أن تتجاهل حكم المحكمة الاتحادية بصرف رواتب الإقليم؟ كيف يمكن تفسير قرار وزارة المالية بحرمان كوردستان من رواتب الأشهر الثمانية المقبلة، بينما لم تُرسل أصلاً سوى أقل من ثلث مخصصاته لعام 2025؟
الإقليم من جانبه لم يقف مكتوف الأيدي. أنشأ نظامًا إلكترونيًا شفافًا للرواتب، وطبق قوانين الدولة الاتحادية، وسلم نفطه إلى شركة سومو، بل حتى نصف إيراداته غير النفطية ذهبت إلى خزينة الدولة. ومع ذلك، لا رواتب، لا موازنات، ولا حتى تعويضات لضحايا الأنفال والقصف الكيمياوي. فقط صمت، وتسويف، وذرائع.

الأرقام وحدها تروي القصة: منذ 2014 حتى اليوم، حُرم الإقليم من حصته الحقيقية من الموازنة، وخسر العراق وكوردستان أكثر من 25 مليار دولار بسبب وقف تصدير النفط. أليس هذا نزيفًا للاقتصاد الوطني؟ أم أن “وحدة العراق” لا تُذكر إلا عندما يتعلق الأمر بإضعاف الإقليم؟
والمفارقة الأكبر أن حكومة السوداني نفسها، وعلى الرغم من سياساتها العدائية تجاه الإقليم، استفادت بشكل مباشر من البنى التحتية والمشاريع التنموية التي أنجزتها حكومة إقليم كوردستان في السنوات الأخيرة. فمنذ عام 2019 وحتى اليوم، نفذت حكومة الإقليم برامج واسعة في مجالات الطاقة، والتعليم، والرقمنة، والحوكمة الإدارية، وكانت هذه النجاحات نموذجًا حيًا لما يمكن تحقيقه إذا أُطلقت يد الأقاليم في التنمية ضمن النظام الاتحادي.

استُخدمت هذه التجارب مرجعًا في بعض وزارات الحكومة الاتحادية، بل وشهدت وفود حكومية من بغداد على أرض الواقع كيف يمكن بناء مؤسسات فعالة في بيئة عراقية صعبة. فهل هذا كيان يُعاقب؟ أم شريك ينبغي الإنصات له والاستفادة منه بدل تهميشه؟
المفارقة أن من يقود هذه السياسة، هو نفسه من نال دعم أربيل لتشكيل حكومته. من أعطته كوردستان مفاتيح التوازن، بات اليوم يستخدمها لإغلاق أبواب الشراكة في وجهها. لكن ما لا يدركه السوداني، أن الجبل لا ينكسر، وأن الحصى حين يُرمى على الزجاج لا يُسبب شرخًا في الصخور، بل يرتد.

وفي ظل أجواء إقليمية متوترة، وصراع محتمل بين واشنطن وطهران قد يجر العراق إلى حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، تبدو سياسة التهميش والتجويع وكأنها لعبة متهورة في وقت غير مناسب. هذا البلد لا يحتمل كسر أي ضلع من أضلعه وقوة العراق ضمن الداخل مهمة بل جدا في هذا التوقيت الصعب .
العراق بحاجة إلى عقلانية، إلى حوار حقيقي يعيد تعريف العلاقة بين المركز والإقليم على أساس الدستور والاحترام المتبادل. لا أحد يطلب من السوداني المستحيل، فقط أن يتوقف عن استخدام المال كسلاح، وأن يدرك أن شركاء الأمس لا يمكن تحويلهم إلى خصوم بلا ثمن.
كوردستان، رغم كل ما تتعرض له، ما زالت تمد يدها للحل. لكن التاريخ لا يرحم من يضيّع فرص البناء من أجل انتصارات سياسية مؤقتة.
في ظل هذا الوضع المتأزم، لم يعد الصمت الدولي مقبولاً. لقد أثارت هذه السياسات قلقًا متزايدًا لدى عدد من الجهات الدولية، بما فيها ممثلية الأمم المتحدة في العراق، والتي أشارت مرارًا إلى أن أي مساس باستقرار كوردستان هو مساس باستقرار العراق كله. كما عبّر العديد من المراقبين والسفارات الغربية عن امتعاضهم من التعطيل المالي المتعمد، وتزايدت الدعوات لعقد حوار شامل برعاية دولية يضمن العدالة للجميع.
الخيار ما زال مطروحًا أمام السوداني: أن يتراجع خطوة نحو التهدئة، ويبني الجسور بدلاً من المتاريس. أما الإصرار على محاصرة الإقليم سياسيًا واقتصاديًا، فليس فقط مقامرة فاشلة، بل وصفة لشرخ لا تُحمد عقباه.

الرسالة الأخيرة بسيطة، لكنها حادة كحد السكين: حين يكون بيتك من زجاج، لا تختبر صلابة الجبل بحجر.

قد يعجبك ايضا