كركوك والمناطق المتنازع عليها… هل تنقذ المادة 140 العراق من أزمته التاريخية؟

د. جمال السعدي

أبدأ هذا المقال بطرح السؤال التالي:
“بعد مرور نحو عشرين عاما على التصويت على مواد وبنود الدستور العراقي، هل ما تزال المادة 140 مجرد حبر على ورق؟”

لقد نصت المادة (13 أولا) من الدستور العراقي على أن هذا الدستور هو “القانون الأسمى والأعلى في العراق، ويكون ملزما في كافة أنحائه دون استثناء”.
أما المادة 140، فقد نصت في فقرتها الثانية على أن “المسؤولية الملقاة على عاتق السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية تمتد وتستمر إلى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور، على أن تُنجز بالكامل (التطبيع، الإحصاء، والاستفتاء في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها لتحديد إرادة سكانها) في موعد أقصاه 31 كانون الأول 2007”.

تعريف المادة 140 وأهدافها
تهدف المادة 140 من الدستور العراقي إلى معالجة ملف المناطق المتنازع عليها، وعلى رأسها محافظة كركوك، بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان.
هذه المناطق تعرضت منذ استحواذ حزب البعث السلطة في عام 1968 وحتى سقوطه عام 2003 إلى تغييرات ديموغرافية قسرية، تمثلت في سياسة “التعريب” من خلال جلب العرب من محافظات الوسط والجنوب، مقابل منحهم حوافز مالية، وتهجير السكان الأصليين من الكرد والتركمان والآشوريين، في محافظات كركوك، نينوى، ديالى، وصلاح الدين.
وتتضمن المادة ثلاث مراحل أساسية، حُدد سقف زمني لإنجازها حتى 31/12/2007، إلا أن هذا الموعد لم يُحترم.

الخطوات الثلاث هي:
التطبيع: ويقصد به إعادة المهجّرين قسرا من السكان الأصليين (الكرد، التركمان، الآشوريين)، وإرجاع المستوطنين العرب إلى محافظاتهم الأصلية، مع إلغاء التغييرات الإدارية والعقود الزراعية غير القانونية التي منحت لهم خلال حقبة النظام السابق.

الإحصاء السكاني: أي إجراء تعداد ديموغرافي لتحديد التركيبة السكانية الأصلية، إلا أن هذا الإجراء واجه اعتراضا من الكرد الذين اشترطوا تنفيذ خطوة التطبيع أولا، وهو مطلب يتسق مع ترتيب مراحل تنفيذ المادة 140.
الاستفتاء: منح سكان المناطق المتنازع عليها حرية تقرير مصيرهم، بين البقاء تحت إدارة الحكومة الاتحادية في بغداد، أو الانضمام إلى إقليم كردستان.

مواقف المكونات العراقية من المادة 140

الموقف الكردي
ينظر الكرد إلى المادة 140 على أنها حق دستوري لا يسقط بالتقادم، ويستندون إلى مبادئ قانونية ودينية، منها الحديث النبوي الشريف: “لا يضيع حق امرئ وإن قدم”.

الموقف العربي
يرى العرب أن المادة فقدت مشروعيتها بانتهاء المدة الدستورية المحددة لتطبيقها في 31/12/2007، وبالتالي فإن أي محاولة لتفعيلها تتطلب تعديلا دستوريا. كما يرفض العرب ما يصفونه بمحاولات تغيير الواقع الديموغرافي لصالح الكرد بعد عام 2003، متهمين بعض القوى الكردية بالسعي للسيطرة على كركوك الغنية بالنفط لأسباب اقتصادية.

الموقف التركماني
يرفض التركمان السيطرة الكردية على كركوك، معتبرين ذلك تهديدا لهويتهم الثقافية والسياسية، ويطالبون بصيغة إدارة مشتركة تشمل العرب والكرد والتركمان معا، محذرين من أن تطبيق المادة 140 دون توافق وطني قد يؤدي إلى صراع داخلي.

اللجان المشكلة لتطبيق المادة 140
شهدت فترات الحكومات المتعاقبة، بدءا من حكومة إياد علاوي وصولا إلى حكومة مصطفى الكاظمي، تشكيل لجان متعددة لتطبيق المادة 140، إلا أن أغلبها لم يحقق نتائج ملموسة.
استثناء يُذكر كان في حكومة نوري المالكي الأولى، حيث تم الاتفاق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني على تفعيل المادة عبر لجنة شكلت في 9/8/2006، وأصدرت سبعة قرارات، أربعة منها محورية في عملية التطبيع. تم فتح مكاتب للجنة في كركوك وسنجار وخانقين، وعُوّض العديد من المهجرين.
لكن خلال ولاية المالكي الثانية، تولى هادي العامري رئاسة اللجنة العليا للمادة 140، ولم تُسجّل إنجازات تُذكر. بل جرى إغلاق مكتب أربيل ونقل جميع الملفات إلى بغداد، مما عطّل تنفيذ الإجراءات.

أبرز المعوقات الأخرى تمثلت في اتهامات بتغيير ديموغرافي متعمد من قبل بعض المكونات، وصعوبات فنية في إجراء الإحصاء السكاني بسبب التفاوت مع بيانات تعداد 1957، فضلا عن غياب الإرادة السياسية لدى الحكومات المتعاقبة.

إجراءات حكومة محمد شياع السوداني
اتخذت حكومة السوداني عددا من الخطوات المرتبطة بالمادة 140، منها:
إلغاء تمليك أراضٍ زراعية للعرب في كركوك، مع تخصيص أراضٍ بديلة في محافظاتهم الأصلية، في خطوة تهدف إلى تصحيح آثار التعريب.
إعداد مشروع تعديل قانون مؤسسة الشهداء رقم 2 لسنة 2016، لضمان شمول عوائل شهداء البيشمركة والأجهزة الأمنية في المناطق المتنازع عليها، ومنع شمولهم بإجراءات المساءلة والعدالة.
إيقاف نقل القيود (سجلات النفوس) إلى المناطق المشمولة بالمادة 140، وإعادة السجلات المنقولة سابقا إلى مناطقها الأصلية.

السعي لإجراء تعداد سكاني، وهو ما كان يعارضه المكون الكردي سابقا قبل تنفيذ التطبيع، ما يطرح تساؤلات عن أسباب تغير الموقف، رغم استمرار التحديات الفنية.

نخلص إلى أن خارطة الطريق التي رسمتها المادة 140 هي الحل الدستوري الأمثل لأزمة المناطق المتنازع عليها.
أما القول بانتهاء صلاحيتها دستوريا لانقضاء مدتها الزمنية (31/12/2007) فهو رأي يعكس وجهة نظر المكونين العربي والتركماني، في حين يتمسك الكرد بشرعيتها.

ويستمر الجدل بين المختصين في القانون الدستوري، فبين من يرى أن المادة ما زالت سارية وفاعلة، ومن يعتبرها منتهية.
ومع ذلك، فإن الإجراءات التي اتخذتها حكومة السوداني تُعد مؤشرا على استمرار صلاحية المادة، وإن لم تكن كافية لحل النزاع.
تبقى المادة 140 قنبلة موقوتة في مشهد عراقي معقّد سياسيا واجتماعيا، وتمثّل صراعا بين الهوية والسلطة بين بغداد وأربيل.
وعليه، يجب على الساسة أن يتحلوا بإرادة سياسية حقيقية ، وأن ينظروا إلى جميع المكونات كشركاء حقيقيين في الوطن، لا كتوابع، لضمان العدالة والاستقرار والعيش المشترك.

قد يعجبك ايضا