الثورة السورية: تطهير الاسم قبل إعادة البناء

إبراهيم اليوسف

لم تكن الثورة السورية خطأ في التقدير، ولا فوضى أشاعها الإعلام، أو خطط لها أغراب ومغرضون. لقد كانت لحظة شجاعة جماعية، حلم بها ملايين السوريين ممن عاشوا في ظلال القمع والاستبداد لعقود. فمنذ عام 1970، حين أطاح حافظ الأسد بأجنحة الدولة بانقلاب عسكري، شُيّدت “جمهورية الرعب” على أساس الحزب الواحد، والقبضة الأمنية، والفساد المنهجي. وعندما ورث بشار الأسد هذا النظام في مثل هذا اليوم من عام 2000، ورث معه أدواته كاملة، بل طوّرها على نحو أكثر سفوراً ودموية.

ونتذكر جميعاً كيف أنه في آذار/مارس 2011، خرج السوريون إلى الشارع، في واحدة من أنبل حركات التحرر الشعبي في زمننا الحديث. فلم تكن تسمية الحدث محل نقاش: كانت ثورة. وصدح الهتاف الأول: “سلمية، سلمية” في كل ساحة. حيث تشكّلت التنسيقيات، تقدم الشبان الصفوف، وسقط الشهداء الأوائل. لم تكن ثورة طائفية، ولا عرقية، ولا عنفية؛ بل كانت مدنيةً صافية، تستدعي من الركام حقوقاً كُتمت طويلاً: الكرامة، الحرية، سيادة القانون.

وفي قلب تلك اللحظة، أعلن المقدم حسين هرموش انشقاقه، في حزيران/يونيو 2011، بصفته أول ضابط بارز يكسر صمته العسكري ويلتحق بالثوار. أسس “لواء الضباط الأحرار”، في موقف تجاوز حدود الشجاعة الفردية، مجسداً للمرة الأولى هشاشة بنية النظام. لكن طعنة الغدر لم تتأخر: فبعد ثلاثة أشهر، اختُطف هرموش من الأراضي التركية، وسُلّم إلى أجهزة النظام، ليظهر لاحقاً على شاشته الرسمية في مشهد اعتراف قسري مهين، بينما بقي مصيره مجهولاً حتى اليوم.

لم يكن النظام وحده من تآمر على الثورة. بذكاء بالغ الخبث، عندما اخترق الحراك، وزرع عناصر تنفّذ أعمال نهب وسلب لتشويه صورته، متزامناً مع سلسلة اغتيالات وتفجيرات غامضة طالت بعض مواليه وبعض الناشطين، كي يخلط الدم بالريبة. إذ أنه في الوقت ذاته، كانت بوابة المال الخارجي تُفتح على مصراعيها. فقد استدرجت تركيا، ضمن مخطط خاص بها، فصائل مسلحة إلى دوائر نفوذها، ثم راح التمويل يُقطع، لينشب صراع داخلي بين الأجنحة، وتتفتت الولاءات، ويرتمي كثيرون في الشراك، شرقاً وغرباً. وبينهم من قرر مغادرة تركيا، كما غادر الوطن من قبل، بعد أن شهد مصير هرموش يُبتلع في العتمة.

بدءاً من 2012، ومع تحول المشهد نحو العمل المسلح، بدأ الانحراف يضرب جذور الحراك. تدخلت قوى إقليمية لتحوّل الساحة السورية إلى حقل تصفية حسابات. إيران هرولت لتثبيت النظام، مغلّفة تدخلها برداء طائفي، وروسيا التي دخلت المشهد العسكري في 2015، جعلت المدن السورية حطامًا، بينما كانت تركيا تعيد تشكيل مشهد الثورة بما يزعم خدمة أمنها القومي ومطامحها السياسية. حيث شيّدت جيشاً تابعاً لها، فاقداً لمعناه الأول، إذ دفت بعض فصائله لاحتلال سري كانيي- رأس العين في العام 2012 لكنها فشلت، ثم أعادت الكرة بعد تدخلها الجوي والعسكري للتمكن واعتماداً على الفصائل المرتزقة التي اتخذت دروعاً في طليعة الجيش التركي لتتمكن من احتلال عفرين 2018، وسري كانيي وتل أبيض 2019، وسط تواطؤ دولي فجّ.

وفي موازاة ذلك، ضخت قطر المال والدعم الإعلامي لفصائل وجماعات ذات ارتباطات أيديولوجية ضيقة، ما زاد من تعقيد وتشظي المشهد، وأدخل الصراع في دهاليز لا تنتمي إلى جوهره الأول. لكن لا ينبغي للغضب من الخيانة أن يعمينا عن الأصل. فالثوار الحقيقيون الذين خرجوا إلى الساحات في درعا، حمص، بانياس، قامشلو، دمشق، و / كوباني إلخ إلخ، لم يكونوا لصوصاً ولا أدوات. كانوا من لحم هذا الشعب، من حلمه الدفين بالحرية، من جراحه المتوارثة، من آمال أطفاله المغدورين. خرجوا بصدور عارية، لا سلاح فيها إلا الهتاف، ولا درع لهم سوى الإيمان بأن ساعة الحرية آن أوانها. هؤلاء هم جوهر الثورة. هم من أسسوا للكرامة، لا من تاجروا بها. هم من قالوا “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهم يعلمون أن الثمن قد يكون حياتهم.

لم يكن الشعب السوري كتلة واحدة من المرتزقة. بل كانت الثورة أمّاً شرعية لأغلب أبنائها، وقلة فقط خانت النسب: انحرفت هذه الفئة إلى ارتهان المال الخارجي، وتورطت تلك في تسويغ الاحتلالات و القمع باسم هذه الشرعية، أو تلك. وبين أولئك وهؤلاء، ظل الثوار الحقيقيون إما شهداء أو معتقلين أو منفيين، أو يلتزمون الصمت تحت وطأة الخيبة.

من هنا، بدأ يتشوه معنى كلمة “ثورة” في الوجدان السوري. فقد صارت تُلفظ بريبة. وصار القتل يُرتكب باسمها، والراية ترفعها ميليشيات مرتزقة، والتهجير يُسوّق كتحرير. إذ نشأ جيل كامل في سوريا على نفور عميق من هذا الاسم، لا لأن الفكرة فاسدة، بل لأن التسمية سُرقت، وجرى تلويثها في سوق الصفقات والدم.

ليس ممكناً تصور بناء سوريا جديدة دون مساءلة شجاعة لهذه الوقائع. يجب أن يُقال من خان الثورة؟ من صَفّى شرفها؟ من استثمر جراحها؟ من صعد إلى المنابر متكئاً على أشلاء الضحايا؟ وكيف يمكن السماح أن يُكلَّل بعض القتلة بمناصب رفيعة في ظل حديث مائع عن “عدالة انتقالية”؟

كيف تُقام مصالحة من دون اعتراف واضح بالضحايا؟
ليس كل من حمل السلاح ثائراً.
ليس كل من علا صوته بالحرية بريئاً.
ما لم يُفرَز الغثّ من الثمين، ستظل سوريا تعيش في كذبة.
استعادة طهرانية الثورة ليست ترفاً لغوياً، ولا حنيناً عاطفياً، بل ضرورة أخلاقية وسياسية وتاريخية.
قبل أن نبني ما هو آتٍ، علينا أولاً أن نعيد الاسم إلى أصحابه، والكرامة إلى رافعيها، وأن نطهر الذاكرة من شوائب الارتزاق، ومن كل من جعل من الثورة معبراً إلى الخيانة.

قد يعجبك ايضا