منابر بلا روح …

نوري جاسم

كيف فقد الخطاب الديني إنسانيته؟
منذ عقود، بدأنا نلحظ تحولًا مريبًا في طبيعة الخطاب الديني، تحوّلًا أفقده روحه، وسلبه نوره، وأبعده عن جوهره الأصيل، ولم يعد صوت المنبر ذاك النداء الذي يلامس القلوب، ويوقظ الأرواح، ويبلل وجدان المتعبدين بندى المحبة والرحمة، ولقد أُفرغ الخطاب من أعمق ما فيه: الإحساس الروحي، وأصبح مجرد مادة تُلقى بجمود، وتُستهلك ببرود. 
والمنابر التي كانت شعلة نورانية تهدي الحائر، وتداوي الجريح، وتبث في النفوس الأمل والتوازن، باتت تفتقر إلى الدفء الإنساني، وأين ذلك الخطاب الذي كان يحنو على الفقير، ويضم التائه، ويزرع الطمأنينة في قلب الخائف؟ لقد اختُطف النور، وساد الجفاء، وتفشى الجمود حتى ساد الاعتقاد بأن الدين هو فقط منظومة أوامر ونواهٍ بلا روح، وفي ظل هذا الاختلال، غلبت المادة على الروح، ففقد الخطاب توازنه، ولم يعد هناك تفاعل صادق بين القلوب والكلمات، بين الأرواح والآيات، وغاب الحب، وغابت الرحمة، وحلّ محلها خطاب يحاكي العقول الجامدة، لا الأرواح الحية، وكأنما صعدت إلى المنابر كلمات بلا نبض، وخُطبت خطب بلا دمع ولا وجيب، ومن أخطر مظاهر هذا الانحدار، بروز نبرة التكفير والتشدد، التي كشرت عن أنيابها في غفلة من الضمير الإنساني، ولم تعد الدعوة دعوةً، بل تحولت في بعض الوجوه إلى وسيلة لإقصاء الآخر، ولزرع الرعب بدل الرجاء، والخوف بدل الأمل. وهنا تضيع الرسالة، وتُغتال قداسة المنبر، ولقد نسينا أن الرسالة الروحية هي قبل كل شيء صوت القلوب والأرواح، وأن الدين في عمقه هو حب، وصدق، ورحمة، وخشية صادقة، لا تُشبه الخوف الأجوف الذي يبثه البعض. إن الخطاب الروحي الحق لا يُقال من فوق منصة باردة، بل ينبعث من قلب خاشع، ونفس ذائقة، ودمعة صادقة تشترك فيها العين والقلب بروح المتعبد المخلص، وإن أمة بلا روح، كجسد بلا حياة، وإن منبرًا بلا روح، كصوت بلا صدى في وادٍ مقفر، ولذلك، فإن الحاجة أصبحت اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى لإعادة الحياة إلى الخطاب الروحي للدين، لا بالشكل، بل بالمضمون. بإحياء الشعلة النورانية التي كانت تضيء للمؤمنين دروب الحياة، وترشدهم إلى الله بالمحبة قبل الموعظة، وبالحنان قبل الترهيب، وبالصدق قبل التنميق، إن الإصلاح الحقيقي يبدأ من المنبر، حين يعود له روحه التي افتقدها، ويُعاد له وهجه الروحي، وصدقه الإنساني، حينها فقط، يمكن أن نقول: إن الخطاب الديني بدأ يستعيد إنسانيته، وبدأت الأمة تستعيد روحها.
فهل نرى هذا النور من جديد؟
وهل نسمع في المنابر القادمة صوت الأرواح لا ضجيج اللسان؟
وهل تعود الدمعة الطاهرة لتكون لغة الموعظة الصادقة؟
نعم، هذا ممكن… حين نعود إلى الله لا بألسنتنا فقط، بل بقلوبنا  ارواحنا، ونكون مع اللذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا   ..
وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما  ..

قد يعجبك ايضا