محمد محمود النجار
القرية بين اللغة والقرآن الكريم: إن الحديث عن القرية حديث ذو شجون، والقرية في القرآن ليست هي الريف الذي نعرفه، بل هي ذات معنى أعم وأشمل، وقد تكون قريةً في القرآن وهي مدينةٌ في العرف، فالقرآن يطلق لفظ القرية للدالة على المكان الذي يشمل تجمعاً بشرياً، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (سورة الزخرف، آية: 31)، والقريتان هنا هما مكة والطائف، وهما مدينتان بدون شك، كما أن مفهوم القرية في العرف الذي يرادف مفهوم الريف، لا يؤدي ذات المعنى في اللغة وشرع، فقد يطلق لفظ القرية لغة وشرعاً على مكان يعمل أهله بالتجارة، وقد كان أهل مكة كذلك فعلاً، ولكني ليست هنا معنياً بتحرير الفرق بين المدينة والقرية والريف، إنما أتحدث فقط عن القرية الريفية على وجه التحديد، ذلك المجتمع الزراعي البسيط، الذي ينعم بالهدوء والطبيعة الخلابة.
الريف الذي كان: الزرع، والهدوء، وبساطة العيش، والحياة الخالية من صخب المدينة وضجيج الآلات، هذه هي الصورة الذهنية للريف، في عقولنا وقلوبنا، الفِطرة، والأكل من الطبيعة، وكرم الأحباب، الحليب والجبن القريش، والأبقار والأغنام، والكانون (موقد بَيْنَ حجرين يعمل بالحطب)، وفرن الطين، والناموس، والبراغيث، والناموسية فوق سرير الحديد ذي القوائم النحاسية، والفواكه الطازجة المقتطفة من شجر الجوافة أمام منزل جدي لأمي، والبلح والعنب والخضار الطازج من غيط جدي لأبي، الريف هو ساعات سعيدة من الطفولة مليئة باللعب كل الوقت على أراجيح مشدودة بحبال بين شجرتي كزورين، من غير ضابط يقهر على احترام الوقت، ولا قيد يتعلق بتحديد ساعات لِلَّعب وأخرى للمذاكرة، ولا شعور بجوع أو عطش، الريف يعني جدي وجدتي وأهلي، هذا الريف الذي كان، وهو الآن شيء آخر تماماً، من دون شك، فكل شيء تغير، وأنا كبرت، ولم يبق من تلك الذكريات سوى القليل من الأثر، وبعض الأهل، والزرع، ومرض بين الأرحام.
الريف الآن: لقد كفر أهل الريف به، فهجروا الهدوء، وطلقوا الهواء النقي، وساروا في لهاث وراء المدينة حذو القذة بالقذة، على مستوى الحجر والبشر، لم تعد القرية هي هي، ولم يعد ريفنا الآن مثل الذي كان، لم يعد منبع القيم ولا مأرز الأخلاق، لقد تعددت فيه ألوان من الجرائم التي يشيب منها الولدان، أقلها قطيعة الأرحام، كان ذلك في السابق موجوداً في بؤر ضيقة محدودة، لكنك الآن تجده يحاصر المكان والزمان، فالجريمة في أي مكان وفي أي زمان، لا مجال للتوقع، والجميع ينبغي أن يكون على حذر من أي غدر، ومن أي اعتداء، ومن أي أحدٍ، مهما قرب، وفي أي وقتٍ، ولأتفه الأسباب.
ريف الشعراء: حديث الشعراء عن الريف يختلف باختلاف تجربة كل شاعر، فليس كل الشعراء لهم جذور ريفية، وليس كل من تحدث عن القرية، تحدث عنها من ذات المنظور، فبعضهم تركت قريته في نفسه أثراً سلبياً، وبعضهم يعبر عنها بمثالية، في مقام الحنين والشوق، كونها جزء أصيلا من الطفولة والذكريات، بعضهم يقارن حين يكتب بين انطباعات الهدوء والنقاء المرتبطة في ذهنه بالقرية وبين المدينة ذات الصخب الدائم والشوارع التي لا تنام، وبعضهم يستحضر عند الحديث عن القرية مقارنة الحضارة والرقي بالبداوة والفقر والبؤس والبؤساء.
القرية في شعر عبد الوهاب البياتي: هو شاعر عراقي نشأ في أسرة تعمل بالتجارة، ولكن يبدو أن تشابكاً ما بين الريف والتجارة قد شكل صورة بائسة في تصوره الذهني عن القرية وأهلها، ففي قصيدته: (سوق القرية) من ديوان (أباريق مهمشة) يقول:
الشمس، والحُمُرُ الهزيلة، والذباب
وحذاء جنديٍّ قديم
يتداول الأيدي، وفَلَّاح يحدِّقُ في الفراغ:
في مطلع العام الجديد
يداي تمتلئان حتما بالنقود
وسأشتري هذا الحذاء
وصياح ديكٍ فرّ من قفص، وقديس صغيرْ:
ما حَكَّ جلدك مثل ظفرك
والطريق إلى الجحيمْ
من جنة الفردوس أقرب والذباب
والحاصدون المتعبون:
زرعوا، ولم نأكلْ
ونزرع صاغرين، فيأكلون
إنه يصور حالة واقعية متردية للقرية، من خلال سوقها الذي تضرب الشمس رؤوس الناس فيه، مما يدل على أنه سوق غير مظلل، وهذه أول علامات الفقر، ولذلك فإن المعروض حُمُر هزيلة، والمكان ينتشر فيه الذباب، هذا هو مدخل القصيدة، يكشف عما بعده من تصوير لحالة البضائع المعروضة، وهي بضاعة قليلة مستعملة (حذاء جندي قديم)، تتداوله أيدى المتفرجين لغرض الشراء، لكن لا أحد يشتريه، فهم لا يملكون ثمنه، ولكنهم يأملون ذلك في العام الجديد، ولم ينس البياتي استحضار رجل الدين في سوق القرية، (القديس الصغير) الذي يحث على الفردية، ويلتفت عن التعاون إلى الاعتناء بمصلحة الذات، (ما حك جلدك غير ظفرك)، وحديثه عن الجنة والنار يدل على كم البؤس لكنه يحمل بعض الأمل، لأن طريق الجحيم نهايته الفردوس، (والطريق إلى الجحيمْ من جنة الفردوس أقرب)، ويستطرد البياتي في الوصف التصويري لسوق القرية، وحال الزارعين المرغمين على العمل بالزراعة من غير حب لها، بما لا يحمل أي بصيص من التغيير إلى الأفضل.
إبراهيم ناجي له رأي آخر: الشاعر المصري إبراهيم ناجي له رأي آخر، وهو شاعر من أهل المدينة، لكنه عاش في المنصورة أول حياته، وعاين جمال الطبيعة، فنظرته للريف نظرة عاطفية، لم تر في الريف إلا الجمال، وفي قصيدته (القرية) نجده قد استلهم عباراتها من لوحة للرسام محمود سعيد، لبنات ريفيات في طريقهن للنيل لملء الجرار، فكانت قصيدته هذه هي تأثر بلوحة زيتية استحضر بإلهامها مشاهداً خلابة للقرية، فلا تلحظ في أبياته إلا ما تفتقر إليه نفوس أهل المدن، من المناظر الطبيعية، وأما وجوه الناس التي يظنهم من يراهم أنهم أسرى، لكثرتهم وفقرهم، فإنه يرفض تماماً تفسير حالتهم بالفقر، والشقاء، والضيق، إنما هي السعادة والطيبة والبشر والطهر، يقول:
حبذا الريف والخلائق فيه ضاحكات الوجوه تفترُّ سحرا
من يراه وقد تبيَّن فيه زمرًا في الزَّحام تحشر حشرا
يحسب الضيق آخذًا في حماه بخناق، ويحسب القوم أسرى
وهم النور والمحبة والقلـب طليقًا مع النسائم حُرا
منظر تلمح البساطة فيه وترى طيبةً وبشرًا وطهرا
منظرٌ تلمح السعادة فيه لا تقل لي أرى شقاء وفقرا
انظر الجرة التي خلفوها وانظر النيل ضاحكًا مفترا
محمود غنيم نسيج آخر: فهو شاعر من محافظة المنوفية في مصر، تعلم في كُتَّاب قريته مليج، وتعلم في المعهد الأحمدي بطنطا، فهو ريفي المنشأ، والتكوين، فهو حين يتحدث عن الريف، فمن خلال مرائي حقيقية عايشها في قريته، وما الصورة العاطفية الملازمة لأبياته في قصيدته (الريف)، إلا حنينا صادقا لذكريات مفعمة بالانتماء لذلك المكان، وهي قطعة فنية وصفية شديدة الرقي، وقف فيها الشاعر موقف المدافع عن الريف، مدفوعاً بالحب الذي يصل إلى حد التقديس، فيقول:
عشقوا الجمالَ الزائف المجلوبا وعشقت فيكَ جمالكَ الموهوبا
قدستُ فيك من الطبيعة سرَّها أنعمْ بشمسك مشرقًا وغروبا!
ولقد ذكرتك فادَّكَرْتُ طفولتي وتمائمي، طوبى لمهدك طوبى!
زعموك مرعىً للسَّوام، وليتهم زعموك مرعى للعقول خصيبًا!
فهي القرائحُ أنتَ مصدر وحيها كم بت تلهم شاعرًا وخطيبا
حيَّيتُ فيك الثابتين عقائدًا والطاهرين سرائرًا وقلوبا
والذاهبات إلى الحقول حواسرًا يمشي العفاف ورائهن رقيبا
وقد بلغ به ولعه بالريف حد تبرير قصور ذات اليد فيه عن الطب الحديث، فيقول إنهم لا حاجة لهم بذلك! لأنهم يعيشون حياة صحية سهلة نقية، شربوا الماء العذب وتعرضوا للشمس فكست وجوههم نضارة، ولذلك لا تجد أحداً في القرية يضع على وجهه المساحيق..