الشعر والواقع

 

د . صباح ايليا القس

لم يعرف العرب في ادبهم فن القصص والروايات . اي ان النثر عندهم او الفنون النثرية لم يكن لديها من قيمة اكثر من الخطابات وبعض الرسائل على العكس من الوضع الحالي الذي سيطرت فيه الفنون النثرية على الواقع الادبي وتراجعت فنون الشعر واغراضه الى المرتبة الثانية بحسب تقديري ..

كان الشعر الذي يعبر عن حياة العرب برمتها فهو في السلم والحرب والاخوانيات والسفر والمدح والهجاء والحب والرثاء والخمر الذي كان مباحا للجميع لان طبيعة المجتمع كانت تتقبل ذلك . وعلى هذا كان الشعر يمثل الحياة العربية بكل تفاصيلها حتى السياسية منها اذ تدخل في الخصومات واصلاح ما افسدته الصراعات ..

اشتمل الشعر العربي على الثنائيات هذه الثنائيات تصلح لدراسة جامعية اذ نجد العبث والمجون مقابل الصوم والصلاة والزهد والورع ونجد المديح الذي يقابله الهجاء ونجد الحب العذري ونجد الخليع ايضا ونجد الخمر في مقابل التصوف ونجد النزاعات الفلسفية لا سيما في العصر العباسي فضلا عن تضادد الاحزاب ونجد الخلاعة في مقابل التنسك ونجد التضادد الفكري الثقافي والسياسي وحتى على مستوى العقائد الدينية .. كل هذه الاضداد وجدت صداها في الشعر العربي لاسيما في العصر العباسي .

فالمجون مثلا تقابلها العقائد الايمانية لكن المجون اخذت مداها في العصر العباسي لاسيما بعد ان عاشت الدولة حالة الاستقرار بعد ان فرضت سطوتها على مساحات شاسعة في فتوحاتها ما جعل الاموال تتوارد اليها من جميع الاقطار فانتعش الناس بما كانوا يحصلون عليه من ثروات واموال فكان لابد من البحث عن اللهو والمتعة .

بغداد العباسيين كانت قطعة من جنان الارض طبيعة خضراء ونهر دافق وحدائق وبساتين عامة وخاصة وتدفق بشري وسوق للنخاسة تباع فيه الجواري والغلمان .. فانتشرت الخمارات وفيها اللهو الغناء والموسيقى والطرب والجواري .. فانصرف بعض الشعراء الى مثل هذه الاسواق بحثا عن الخمر والليالي الحمر يقضون السهرات بين الكاس والطاس وحتى الصباح بلا نعاس .

كانت الخمور تتوافد اليهم من الاديرة المجاورة اولا حتى اذا اتقنوا صناعتها صارت هناك تجارة الخمور وهي تجارة رابحة ومغرية ومطلوبة وسريعة الثراء نظرا للاقبال المتزايد عليها .

وقد وصف ابو نؤاس دير ( حنة ) الذي كان يرتاده يقول :

يا ديرحنة من ذات الاكيراح من يصح عنك فاني لست بالصاحي

رأيت فيك ضباء لا قرون لها يلعبن منــــــــا بألبــــــــــابٍ وارواحِ

الضباء = النساء الجميلات

ويقول ابو الفرج :

كم للصبابة والصبا من منزلِ ما بين كلواذي الى قطر بلِ

جادته من دَيْمِ المدام سحابــــة اغنته عن صوب الحيا المتهللِ

كلواذي وقطر بل – اديرة كانوا يشترون منها الخمر .

يلاحظ ان التمدن البغدادي اعتمد على سوق الجواري وسوق الخمور وسوق العبيد ونشط التجار في هذا الجانب فصارت بغداد مدينة كبيرة وصارت ملتقى الحضارات والقوميات والديانات والتيارات من الخمر والخلاعة والمجون الى الزهديات والتدين والتيارات الدينية .

الحضارة تتطلب نشاطا وحركة وكل فرد يأخذ منها ما يشاء بين اجواء من الطرافة احيانا والشدة والقسوة في احيان اخرى .

 

قد يعجبك ايضا