د. ابراهيم احمد سمو
صعبةٌ هي المراحل التي مرّ بها هذا القائد؛ التحق بالحزب في ريعان شبابه، وتخرّج في كلية الحقوق، ثم عمل محاميًا لمدة عامين فقط، ليهب ما تبقّى من عمره قربانًا للوطن. إنها رحلة استثنائية لا تُروى إلا في أفلام البطولة الحقيقية: شابٌ يترك مهنة راقية وملذات الحياة، ويلتحق بالثورة، مفضّلًا خدمة قضيته الكوردية في المنافي. ثم يعود من جديد ليحمل البندقية ويواصل العمل الحزبي، بإيمانٍ لا يتزعزع.
بغداد، حلم الثقافة والمدنية، تركها بكامل إرادته، وبدأ من جديد، كما ورد في بيان المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني : من شوارع بغداد إلى جبال كوردستان، حيث الطريق واحدٌ لا ثانٍ له — إما الاستشهاد أو نيل الحرية. وبهذا الخيار، ارتقى مقامه، وسجّل اسمه بين من جعلوا من النضال حياةً لا مجرّد مرحلة.
اليوم ينعى الإعلام مناضلًا ترك فراغًا كبيرًا ، الفقيد كريم شنگالي، الذي رحل تاركًا خلفه سجلًا من الكفاح والوفاء والعلو في المقام. رحيله ليس مجرّد خبرٍ عابر، بل خسارة حقيقية للحزب، وللأمة كلها.
وكعادتي في كل مرة نفقد فيها أحد أعمدة كوردستان، سواء أكان سياسيًا، أكاديميًا، شاعرًا، مفكرًا أو قائدًا، يتحرك قلمي لا إراديًا، منساقًا خلف شعور داخلي بالوفاء تجاه هؤلاء الذين يصعب ملئ الفراغ . هؤلاء الذين، برأيي، لا يعيدهم الزمن، ولا يجود بمثلهم بسهولة. فهم نتاج أعوام من الكفاح، وتاريخ من التضحيات.
إن كل شخصية استثنائية تفارقنا، تمثّل لنا فراغًا كبيرًا، ليس فقط في موقعها أو وظيفتها، بل في وجدان المجتمع وضميره. فغيابهم يخلّف أثرًا عميقًا في ذاكرة الوطن، وكأن قطعة من هويته قد انفصلت عنه.
قلمي لا يتردد حين يكتب عن المتميزين، أياً كانت ميادينهم. إنه ينحني احترامًا لكل من ناضل من أجل القضية، لكل من رفع اسم الوطن في مجاله، لكل من ترك بصمة لا تُنسى. هؤلاء لا يُرثَون بكلماتٍ إنشائية، بل يُوثَّقون في سجل الكرامة والتاريخ.
واليوم، فقدنا واحدًا من أولئك النادرين. لم أكن أعرفه عن قرب، لكنني تابعت مسيرته عن كثب، وسمعت عنه كثيرًا من مصادر مختلفة، ورأيت حضوره في وجدان الناس. لم يكن رجل منصب، بل كان رجل مواقف. عاش حياته بين صمتٍ ثقيل وخيارات صعبة، فاختار طريق النضال بثقة ونقاء. ورغم أن الخيار الآخر كان مريحًا، فإن مَن آمن بالمبدأ يرى أن لا شيء يُقارن بحب الانتماء، ولا بديل عن الالتزام بالقضية.
لقد نال ثقة القيادة، لكنه لم يركن إليها، بل حمَلها كأمانة، وسعى بها لخدمة الوطن، لا لراحة الذات. كان رقمًا صعبًا في معادلة السياسة، ووجهًا مشرقًا في دفتر الانتماء الوطني. وبين كل ما قُدِّم له، اختار أن يكون في خدمة المبادئ… لا غير.
وحين يفقد الحزب أحد رجالاته بهذا الحجم، لا تُقاس الخسارة ضمن حدود التنظيم فحسب، بل تمتد إلى الأمة بكاملها. فرحيل شخصياتٍ كهذه لا يجب أن يمر مرور الكرام، ولا يليق به الصمت أو بيانات العزاء العابرة. بل هو حدث يجب أن يُثبّت في ذاكرة التاريخ، وتُكتب عنه كلمات تليق بمسيرته وتاريخه.
التاريخ سيسجل له، لأنه عاش بعزة، ومات بعزة. لأنه اختار أن يكون جزءًا من الكفاح، لا من الرفاه. ولأنه اختار الموقف، لا الموقع. وفي هذا، كان كمن سبقوه من رموز هذا الشعب الذين نذروا أعمارهم من أجل كوردستان.
رسالتي اليوم ليست رثاءً تقليديًا، بل وقفة وفاء لكلمة “نضال”، حين تتجسد في إنسان. وكتابة واجبة من كاتبٍ جعل من قلمه شاهدًا على النبل، وسطرًا من دفاتر الوفاء لمن يستحق.
رحم الله الفقيد كريم شنگالي، وألهم أهله ومحبيه الصبر، وجعل ذكراه شعلة تُضيء دروب القادمين