مصطفى حسين الفيلي
قد يبدو الجمع بين “القرآن الكريم” و”السينما” أمرًا غريبًا للوهلة الأولى. فالأول هو كتاب الله، مقدس وثابت منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، والثانية فن حديث، بشريّ المنشأ، ارتبط في أذهان كثيرين بالترفيه وربما التهتك والانفصال عن الروح. ومع ذلك، لا يمكن لمن يمعن النظر أن يُنكر وجود منطقة تأمل مشتركة بين الطرفين، خاصة حين نقترب من جوهر كل منهما: التعبير عن الإنسان، عن المعنى، وعن الوجود، ولكن بأدوات مختلفة ومقاصد متباينة.
القرآن ليس مجرد كتاب تشريعي أو وعظي، بل هو أيضًا كتاب لغة وصورة. يكاد يكون المعجم البصري في النص القرآني من أغنى ما يمكن أن يمر به القارئ، حيث تتحول القيم المجردة والمشاعر الوجدانية إلى مشاهد ذهنية نابضة بالحياة. حين نقرأ مثلًا قول الله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾، لا نتلقى أمرًا أخلاقيًا فقط، بل نشاهد صورة مجازية شاعرية: ابنٌ يطوي جناحيه بتواضع أمام والدَيه، كما يطوي الطائر جناحيه على فراخه في حنان ورقّة. هنا لا يصف القرآن الرحمة، بل يجسّدها في مشهد حي، يتغلغل في الخيال والوجدان معًا.
وهذا النمط من التصوير القرآني لا يقف عند حدود الأخلاق، بل يمتد إلى العقيدة، والكون، والنفس البشرية. نقرأ عن الليل وهو “لباس”، وعن البحر وهو “موج فوقه موج”، وعن المصباح في زجاجة كأنه كوكب دري… صور متحركة بالكلمات، تختزن معنى وتشويقًا وجمالًا، وتجعل من القارئ مشاهدًا داخليًا، يعيش في النص كما يعيش المشاهد في قلب الفيلم.
ولعل هذا يقودنا إلى التفكير في السينما بوصفها الفن الذي جاء ليقدّم الصورة لا بالكلمة، بل بالعين. السينما، حين تتخلى عن السطحية والمجانية، وتصبح أداة للتأمل، يمكنها أن تقترب من بعض الوظائف التي تنهض بها القصص القرآنية: أن تروي لتعلّم، أن تُجسّد لتفتح باب الفهم، أن تطرح الأسئلة لا أن تفرض الإجابات.
لا يمكن إنكار أن السينما، في جانب كبير منها، انغمست في الاستهلاك، أو وظفت لخدمة أيديولوجيات معادية لقيم إنسانية وروحية كثيرة. لكنها، رغم ذلك، تظل أداة فنية قابلة لأن تُستثمر في الاتجاه المضاد. فقد رأينا أعمالًا سينمائية عالمية تناولت الصراع بين الخير والشر، قيمة التسامح، معنى التضحية، وقسوة الامتحان، وكلها قضايا نجد لها جذورًا عميقة في النص القرآني، وإن اختلفت الخلفيات أو الأطر.
ومثلما يستخدم القرآن القصة كوسيلة لترسيخ القيم وفتح باب التدبر، كما في قصة يوسف وموسى وأصحاب الكهف، فإن السينما تعتمد أيضًا على السرد لتوصيل المعنى، لكنها قد تختار الحكاية التراجيدية أو الرمزية أو حتى السريالية، لتفتح مجالًا للنقاش والتأويل. واللقاء هنا لا يعني التطابق، بل يعني أن هناك حوارًا صامتًا بين لغتين: لغة الوحي ولغة الصورة، كلاهما يحاول مقاربة الحقيقة، لكن أحدهما يتنزل من السماء، والآخر يصعد من الأرض.
الأكثر إثارة للتأمل أن القرآن بلغته وحدها استطاع أن يصنع تأثيرًا بصريًا ووجدانيًا لا يقل عن أي فيلم عظيم. لم يحتج إلى كاميرا ولا إلى موسيقى تصويرية، بل إلى الكلمة، الكثيفة، المجازية، المضيئة، التي تُفتح بها نوافذ الخيال كما تُفتح نوافذ الروح. وفي هذا المستوى، تبدو العلاقة بين القرآن والسينما ليست في المحتوى، بل في الإمكانات الجمالية. إنهما يشتركان من حيث المبدأ في محاولة إيقاظ شيء ما في داخل الإنسان: دهشة، تساؤل، انكسار، أو نور.
هل يمكن إذًا أن تكون هناك سينما “قرآنية الروح”؟ ليس بمعنى أن تحوّل الآيات إلى مشاهد، أو القصص إلى أفلام حرفية فذلك قد يُسيء أكثر مما يُفيد بل بمعنى أن تُستلهم من روح القرآن، من رؤيته للإنسان، من طريقته في التصوير، من إحساسه بالزمن، ومن تعامله مع المعاني الكبرى. سينما لا تكتفي بأن “تقول”، بل “تُبصر”، وتُبصّر.
ما نحتاج إليه اليوم هو فنان يقرأ القرآن لا بعين الباحث الفقهي فقط، بل بعين المتأمل الجمالي، الذي يُدرك أن وراء النص نورًا وصورةً، بإمكان الفن أن ينهل منها دون أن يتجاوز حدوده أو يسطّح الرسالة. والفنانون الذين يتطلعون لصناعة سينما تحاور الوجدان، وتعيد وصل الإنسان بذاته وبالكون، يجدون في القرآن بحرًا لا ينضب من الرموز، والتشبيهات، والمواقف، التي تُشكّل مادة فكرية وشعورية لا تقدر بثمن.
القرآن لا يحتاج للسينما، لكنه قد يُلهمها. أما السينما، فهي تحتاج إلى ضوء من هذا الوحي، لتُشفى من عماها الأخلاقي، وتستعيد قدرتها على أن تكون فنًا ذا رسالة، لا مجرد وسيلة للضجيج.