د. ابراهيم احمد سمو
سألني أحد الأصدقاء مؤخرًا: “كيف تستطيع أن تكتب كل هذه المقالات؟ ألا تتعب؟”
توقفت قليلًا أمام سؤاله، لا لأني لا أملك الإجابة، بل لأن الجواب يحمل في طياته سيرة طويلة من التعب، العزلة، والبحث عن المعنى.
في عام 2018، اتخذت قرارًا مصيريًّا دون إعلان مسبق، أن أضحي بشيء لأجل شيء. شعرت أن العمر بلغ مرحلة تستوجب تحويل التجربة إلى أثر مكتوب. عندها قررت أن أمنح القلم مساحة أكبر من وقتي وجهدي، وأن أترك جانبًا كثيرًا مما يُلهي عن المعنى: الرفاهية، الترف، والمجاملات الزائدة.
لم يكن الطريق سهلاً. من أراد أن يبلغ “العلوّ في الكتابة” كما كنت أصفه لنفسي، عليه أن يسلك دربين في آنٍ واحد: الزهد عن كثير من متاع الحياة، وتوسيع فسحة البوح بكل ما يراه، يلمسه، أو يسمعه. فكل حدث، كل وجه، كل موقف، يمكن أن يكون مادةً لمقال، شريطة أن يكون القلم حيًّا.
بدأت أجمع الأوراق والملاحظات منذ سنوات طويلة، متأملًا أن أجعل منها لاحقًا مدوّنةً للحياة كما رأيتها لا كما كُتبت في الكتب. وكنت أخصص ساعات طويلة للقراءة دون تصنيف: تاريخ، أدب، دين، علم نفس، أو حتى رسائل شخصية، لأن تقوية اللغة وتوسيع المفردات لا يتمان عن طريق واحد فقط. العقل، بالنسبة لي، هو “ديسك” كبير، يتسع كلما شُحن جيدًا.
في البداية، كان المقال الواحد يأخذ مني أكثر من أربع ساعات من الكتابة، المراجعة، والتدقيق اللغوي، بمساعدة أصدقاء أوفياء لهم مني كل التقدير، كانوا لا يتأخرون في تصحيح الأخطاء والتنقيط، رغم أن العمل كان يدويًّا ومتعبًا.
ومع ذلك، كنا نكتب. وأحيانًا نكتب ثلاثة أو أربعة مقالات في اليوم الواحد. كنا نرسلها، نناقشها، نحررها، ونصبر على وجع اليدين والتعب الجسدي. كانت تلك اللحظات قربانًا نُقدّمه لشيء نؤمن به بشدة: الكلمة الحرة، والفكرة الواضحة.
ثم جاء “الذكاء” — الذكاء الاصطناعي.
في البداية، تعاملت معه بتحفظ، ثم بالتجربة، ثم بالاندماج. وفجأة، بدأ ما كنا ننجزه في أربع ساعات، يتحقق في ساعة واحدة أو أقل.
لم يعد القلم متعثرًا لغويًّا، ولا المقال مثقلاً بالأخطاء. الذكاء صار مساعدًا، لا بديلاً، لكنه فتح الباب لما هو أهم: أن نكتب أكثر، وننشر أسرع، ونختصر الوقت والجهد.
صرنا نلتقط الفكرة، نحولها إلى نص، نراجعه، ثم نبعثه للعالم كل يوم، بصيغة أكثر اتزانًا، لغويًّا وفكريًّا.
صار القارئ لا يفرّق بين مقال الأمس واليوم من حيث اللغة والدقة، وصارت الكتابة اليومية ممكنة، بل عادة.
لكن، لكل شيء ثمن.
من يريد الجمع بين “حب الدنيا” و”متعة القلم”، سيجد الطريق صعبًا. فليس كل من يكتب يستطيع أن يستمتع في الوقت نفسه بملذات الحياة. والاعتكاف عن الكتابة يعني في كثير من الأحيان الانعزال، والتنازل عن بعض علاقات المجتمع، وربما حتى عن كثير من المتعة الشخصية.
صحتنا، نحن الكتّاب الصادقين، غالبًا ما نكون في خطر، لا من المرض، بل من الإرهاق النفسي، ومن السهر الطويل، ومن الاستنزاف العاطفي الذي يتطلبه تحويل الواقع إلى كلمات.
لكننا اخترنا هذا الطريق، ورضينا به. لم نطلب الثمن، ولم ننتظر التكريم. بل اعتبرنا أن نشر مقالٍ يوميٍّ، متزن اللغة والمعنى، هو “هبة من الله”، ورسالة يجب أن تُبلغ، دون انتظار الرد.
نعم، لقد ضحّينا. لكننا أيضًا كسبنا.
كسبنا القرّاء، كسبنا صوتنا الداخلي، كسبنا قناعتنا بأن القلم لا يُخلف موعده. كسبنا أنفسنا
خاتمة:
هذا المقال ليس مجرد ردٍّ على صديق سأل بلطف، بل هو شهادة اعتراف أمام من يقرأ لي.
أن ما تكتبونه أنتم، أنتم من جعلتموه ممكنًا.
أن ما أكتبه أنا، هو ثمرة زهد، ورفقة قلم، ومساعدة ذكية، لا تلغي الإنسان بل تفتح له طريقًا للثبات