د. دژوار سندی
يمثل إقليم كردستان العراق حالةً فريدةً في التاريخ الدستوري والسياسي للشرق الأوسط، حيث تحوَّل من كيانٍ مضطهدٍ تحت حكم نظامٍ مركزيٍّ استبدادي إلى نموذجٍ للحكم الذاتي ضمن إطار دستور اتحادي. ومع ذلك، تواجه هذه التجربة تحدياتٍ جذريةً تهدد وجودها، لا سيما في ظل الممارسات المركزية التي تنتهجها حكومة بغداد، والتي تعامل المكاسب الدستورية للإقليم باعتبارها امتيازاتٍ قابلةً للسحب وليست حقوقاً ملزمة. ينعكس هذا التوتر في التباين بين التفسير الكردي للدستور، الذي يؤكد على الطبيعة الاتحادية الحقيقية للدولة، والتفسير المركزي الذي يسعى إلى إفراغ الفيدرالية من محتواها العملي.
تظهر إشكالية العلاقة بين الإقليم والحكومة المركزية في التعامل الانتقائي مع النصوص الدستورية. فبينما تنص المادة (121) من الدستور العراقي لعام 2005 على صلاحياتٍ تشريعيةٍ وإداريةٍ واسعةٍ للأقاليم، تتجاهل بغداد هذه النصوص أو تفسرها بشكلٍ يخدم هيمنتها. وفي المقابل، تتمسك الحكومة المركزية بنصوصٍ أخرى، مثل المادة (110) المتعلقة بالسيطرة على الموارد الطبيعية، بينما تتغاضى عن تطبيق المواد (١١٢ و ١١٥) التي تمنح الأقاليم الحق في إدارة مواردها. هذا النهج الازدواجي يحوِّل الفيدرالية إلى إطارٍ شكليٍّ يخفي استمرار النزعة المركزية تحت غطاءٍ قانوني.
تتخذ التجاوزات الدستورية أشكالاً عمليةً تمس الجوانب الاقتصادية والسياسية للإقليم، مثل تعطيل صرف الرواتب، وفرض القيود على المنافذ الحدودية، وعرقلة تصدير النفط. هذه الإجراءات لا تنتهك فقط مبادئ الدستور، بل تدفع باتجاه تقويض الاستقرار السياسي وتعزيز النزعات الانفصالية لدى المواطنين الكورد، الذين باتوا يشككون في جدوى الانتماء إلى نظامٍ اتحاديٍّ يرفض تطبيق مبادئ الفيدرالية بعدالة.
في مواجهة هذه التحديات، سعى إقليم كردستان إلى تعزيز ضمانات بقائه الدستوري عبر إقامة تحالفاتٍ دوليةٍ واقتصادية، مثل عقود النفط مع الشركات العالمية والشراكات الأمنية مع القوى الإقليمية والدولية. كما مثَّل استفتاء عام 2017 تعبيراً عن إرادةٍ شعبيةٍ رافضةٍ للعودة إلى سياسات التهميش والإقصاء، رغم الضغوط والانتقادات التي واجهها.
يقف إقليم كردستان اليوم عند مفترق طرق، حيث يتوقف مستقبله على مدى اعتراف بغداد بحقوقه الدستورية كاملةً. فإما أن تتحول الفيدرالية إلى شراكةٍ حقيقيةٍ تقوم على المساواة والاحترام المتبادل، أو أن يستمر الإقليم في تعزيز استقلاليته العملية، مما قد يقربه من نموذجٍ كونفدراليٍّ بحكم الواقع. لقد أظهر شعب كردستان التزاماً واضحاً بالعراق الاتحادي، لكن هذا الالتزام مشروطٌ باحترام الدستور وتطبيقه بشكلٍ عادل.
في الختام، فإن مستقبل العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة المركزية لن يتحدد بتقلبات السياسة اليومية، بل بمدى التزام العراق ككل بالمبادئ الدستورية التي كرستها التضحيات التاريخية للشعب الكردي. فإما أن يتحول العراق إلى دولةٍ اتحاديةٍ حقيقيةٍ تحترم حقوق جميع مكوناتها، أو أن يفرض الواقع السياسي ترتيباتٍ كونفدرالية تكون نتاجاً طبيعياً لاستمرار سياسات الإقصاء وعدم الاعتراف.