مهند محمود شوقي
إلى الرأي العام داخل العراق وخارجه: كفى صمتًا أمام ما يُمارس ضد شعب كوردستان العظيم. لم يعد ما يجري مجرد خلاف سياسي عابر أو تعثر مالي عادي أو أزمة اقتصادية عابرة، بل حملة ممنهجة تستهدف شعباً كاملاً بذاته. شعب كان وسيظل حجر الأساس في بناء العراق الجديد بعد 2003، دفع أثمانًا فادحة في مواجهة داعش الإرهابي، وفتح أبوابه لاحتضان أكثر من مليون نازح داخلي، وساهم بفعالية في صياغة الدستور العراقي لعام 2005، الذي يُخرق اليوم أمام أنظار العالم، كما لو كان ورقة بلا قيمة.
بخطاب رسمي واحد ذيل بتوقيع اكبر مسؤول مالي في العراق في 28-5-2025, قطعت رواتب مليون و200 الف من موظفي ومتقاعد وعوائل الشهداء في الإقليم،. والرواتب التي حجبت تشكل شريان حياة مئات آلاف العائلات، لم تُصرف بانتظام لأكثر من عامين تخللتها انقطاعات متعددة تحت ذرائع غير مبررة ، بحسب تقارير وزارة المالية في الإقليم، مما تسبب في أزمات حادة في قطاعات التعليم والصحة والخدمات الأساسية.
المعلمون والأطباء وأساتذة الجامعات، الذين شكلوا الدعامة الحقيقية لمجتمع كوردستان، يعيشون على وعود فارغة وسط ظروف معيشية صعبة، بينما تختبئ الحكومة الاتحادية في بغداد خلف مبررات قانونية واهية، وتستغل المحكمة الاتحادية – التي من المفترض بها حماية الدستور – لتبرير قرارات سياسية قاسية.
دولة تدّعي الاتحاد لا يجوز لها أن تُجوع جزءًا من شعبها. لا يجوز أن تتحول أبسط حقوق المواطن، كراتب شهري، إلى ورقة ضغط سياسية وسلاح ضد مواطنيها. من يقطع راتب موظف كردي، لا يختلف عن من أنكر وجود هذا الشعب عبر التاريخ، أو حاول تهميشه. والمفارقة المؤلمة أن ذلك يحدث في ظل شعارات الإصلاح والخدمة، فهل أصبح التجويع سياسة إصلاح؟ وهل تُقاس الشراكة السياسية بعدد الاجتماعات، وليس بعدد الأطفال الذين ينامون جائعين في كوردستان؟
السيد محمد شياع السوداني، نقولها صراحة: الشعب الكردي لم يكن يوماً عبئًا على العراق. بل على العكس، وُثق في تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش، أن الكرد يشكلون مكونًا أساسياً لا يمكن تجاوزه، وليسوا أقلية وهم عامل استقرار وامان في وطن فقد أمنه واستقراه لسنوات طوال. وفق المادة 112 من الدستور العراقي، للأكراد حق استثمار مواردهم النفطية وإيراداتهم بشكل مستقل، وهو حق تم تقييده بشكل ممنهج من بغداد رغم الأدلة القانونية. شارك الكرد في الصفوف الأولى لمحاربة الإرهاب ودعم العملية السياسية، رغم كل حملات التهميش والشوفينية التي تعرضوا لها. من حقهم أن يعيشوا بكرامة، لا أن يُحاسبوا على مواقف سياسية لا علاقة لهم بها.
الواقع اليوم ليس “تعثرًا تقنيًا او التباس محاسبي ” في التحويلات المالية، بل سياسة متعمدة لتهميش كوردستان وفرض وصاية مالية وسياسية عليها. بالرغم من أن الإقليم واصل تقديم التسهيلات وإبرام عقود قانونية مع شركات النفط الدولية استنادا الى الصلاحيات التي منحتها اياه المادة 121 من الدستور العراقي ، تمنع بغداد تصدير النفط من الإقليم، وتقطع ميزانياته، مما يعرقل التنمية ويضر بمصالح ملايين المواطنين، كما تؤكد تقارير وزارة النفط العراقية والبنك الدولي. متناسية ان التطور في استثمار النفط والغاز في الاقليم وهو جزء من العراق يعزز مكانة العراق الاتحادي في اسواق الطاقة العالمية.
رغم هذه الضغوط، اختار رئيس حكومة إقليم كوردستان، مسرور بارزاني، طريق الحوار والتفاوض. بادر بحوارات مكثفة على المستويات المحلية والدولية، وزار عواصم مثل واشنطن وبرلين ولندن، حيث تلقى دعمًا من كبار الدبلوماسيين الذين أكدوا ضرورة الحل السلمي وفق الدستور. قدم مبادرات واضحة لحل الخلافات بعيدًا عن التصعيد السياسي، مؤكدًا أن الحلول الدستورية فقط هي الكفيلة بضمان استقرار العراق ووحدته. وقد أشار بيان وزارة الخارجية الأميركية في مايس 2025 إلى أهمية احترام الاتفاقات النفطية وحقوق الشركات والتزامات بغداد تجاه الوضع الفيدرالي لاقليم كوردستان (مكفول بالمادة 117 من الدستور).
الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في فبراير 2025، والذي ضمن تأمين الرواتب لعام كامل لموظفي الإقليم، لم يكن صدفة، بل حصاد شهور من التفاوض والضغط الشعبي المستمر. إلا أن بغداد ما تزال تماطل وتفرغ الاتفاقات من مضمونها، ما يعكس عقلية مركزية ترى كوردستان عبئًا وليس شريكًا حقيقيًا، كما حذرت تقارير البعثة الأممية في العراق ومفوضية حقوق الإنسان.
إن استمرار هذه السياسات لا يهدد فقط استقرار كوردستان، بل يقوض أسس العراق برمته. أظهرت تقارير البنك الدولي ومنظمة الشفافية الدولية أن الاستقرار السياسي والاقتصادي في العراق يرتكز على تحقيق العدالة والشراكة الحقيقية بين مكوناته. عراق بلا عدالة ومساواة وشراكة حقيقية واحترام للدستور هو عراق هش، قابِل للانهيار في أي لحظة.
على قادة بغداد، وعلى رأسهم السيد السوداني، أن يعوا أن كوردستان ليست ملفًا مالياً يمكن المساومة عليه، بل شريك استراتيجي أساسي ساهم ولايزال في بناء العراق الجديد , عراق مابعد 2003. من هنا بدأت مقاومة داعش، ومن هنا انطلقت المبادرات الإنسانية التي استفاد منها العراق كله. من الظلم أن يُكافأ هذا الشعب بالتجويع والتمييز.
كوردستان ليست ملف رواتب فقط، بل قضية كرامة وحياة، وستبقى حجر الأساس لأي عراق عادل ومستقر ودائم ينشده الجميع . إما أن تكون الشراكة قائمة على العدالة والمساواة، أو لا شراكة على الإطلاق.