الراتب .. موقف إنساني قبل أن يكون إستحقاقاً وظيفياً

د. عصام البرّام

في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، يبقى الراتب الشهري شريان الحياة الأساس لعشرات الآلاف من الموظفين في إقليم كردستان العراق. هؤلاء الموظفون، الى جانب عوائلهم، يعتمدون بشكل كامل على ما يتقاضونه من أجور لقاء عملهم في المؤسسات العامة. لكن تأخر صرف هذه الرواتب، أصبح واقعاً ثقيلاً يفرض معاناة إنسانية عميقة على شريحة واسعة من المجتمع.
نحن اليوم على أبواب الأعياد، وغداً ستنتهي المناسبة، تلك الأيام التي يفترض أن تكون وقتاً للفرح، للملابس الجديدة، لطعام العيد، ولتجمعات الأهل. غير أن غياب الراتب يحوّل هذه المناسبة الى مصدر آخر للقلق والتعب النفسي. كيف يمكن للأب أن يفرح وهو عاجز عن شراء قطعة ملابس جديدة لأطفاله؟ كيف يمكن للأم أن تُعدّ سفرة العيد، وهي لا تملك ما يكفي من المال لشراء أبسط مقوماتها؟

الموظف ليس رقماً في المعادلة الاقتصادية أو حساباً بنكياً ينتظر التحويل. إنه إنسان يعيش بكرامة يربي أولاداً، يُعيل أسرة، ويواجه الحياة بجهده اليومي، الراتب بالنسبة له ليس مجرد آستحقاق مالي، بل هو حق إنساني وآجتماعي، لا يحتمل التأخير ولا التسويف، خصوصاً حين يصبح المصدر الوحيد للدخل.

نحن هنا لا نهدف الى توجيه اللوم أو فتح أبواب الصراع، بل نناشد الضمير الإنساني، من أي موقع كان، أن يضع معاناة المواطنين نُصب عينيه. فمهما كانت التحديات الإدارية أو السياسية، ينبغي أن يبقى المواطن البسيط خارج دائرة الخلاف. لا ذنب له ما يجري، ولا طاقة له على تحمّل تبعات ذلك، خاصة وأن المتطلبات الحياتية لا تنتظر، والحياة لا تتوقف حتى تُحلّ الأزمات. إننا اليوم، ومن منطلق إنساني بحت، نرفع الصوت من أجل الموظف الذي هو جزء من جسد الدولة. ومن أجل كل عائلة تقف أمام عيد فارغ من البهجة أو حتى من غير العيد، فالمعانات تتكرر أكثر من مرة. فالراتب هو موقف أخلاقي قبل أن يكون التزاماً وظيفياً ، وكرامة الإنسان ينبغي أن تبقى فوق كل آعتبار.

الوجع الصامت في بيوت الأمل
إنّ في كل بيت من بيوت الموظفين المتضررين من تأخر الرواتب، فضلاً عن توقف مشاريع البناء والإعمار والبنى التحتية، هنالك قصة صامتة لا تُروى، لكنها تُحسّ وتُرى في عيون الأمهات، في أنكسار الأباء، وفي تساؤلات الأطفال التي لا تجد جواباً. كيف نُقنع طفلاً بأن العيد قد لا يأتي هذا العام، أو أنه سيأتي خجولاً، باهتُاً من دون ملابس جديدة أو لعبة صغيرة طالما حلم بها.
الألم الأكبر ليس في الجوع ولا في الحاجة، بل في الشعور بالعجز، وهو شعور يفتك بالكرامة والإنسانية بصمت. الموظف الذي إعتاد أن يقف شامخاً في وجه الصعاب، يشعر اليوم بأن الأرض تهتز من تحته، لا لذنب آقترفه، بل لأنه ينتظر حقاً بسيطاً هو أجر عمله.

وفي الوقت الذي قد يتعامل البعض مع مسألة الرواتب كجزء من نقاش سياسي أو مالي، هناك أُسر حقيقية تعيش اليوم على القروض، أو تعتمد على تضامن الجيران والأقارب مع بعضها البعض، وهي حلول مؤقتة لا تكفي للإستمرار. فأن كان العيد يأتي مرة في السنة، لكن الجوع والحاجة يطرقان الأبواب كل يوم.
ليس المطلوب إلا أن يُعاد النظر الى هذا الملف من منظور إنساني بحت. فحين تُصرف الرواتب بإنتظام، لا يُمنّ أحد على أحد، بل تُحفظ كرامة الإنسان، ويُصان إستقراره النفسي والاجتماعي، وهذا هو جوهر الدولة في معناها الأعمق: أن تكون حامية لحقوق مواطنيها على كافة أرجاء أرضه، لا سيما الضعفاء منهم.

ولعلنا في هذه الايام المباركة، حيث تسود الرحمة والمودة والتكافل، نأمل أن يصل هذا الكلام الى كل من يملك القرار أو التأثير، ليكون الحل أقرب، والمعاناة أخف، والفرحة ممكنة في بيوت تنتظرها منذ شهور. فليكن الراتب موقفاً إنسانياً، لا ينتظر مناسبة ولا يمر عبر تعقيدات السياسة.لأن كرامة الإنسان لا تحتمل التأجيل. وهو حق قانوني ينبغي ان يُصان بإستقلال عن التجاذبات، إنه التزام تعاقدي بين الدولة والموظف، لا ينبغي ان يخضع لمزاج السوق او الخلافات الثانوية.

ولعل أولى الخطوات للخروج من الأزمة، تبدأ من الإعتراف بمكانة الموظف كمحور أساسي في بناء الدولة، وإعتبار صرف راتبه في موعده مسؤولية آخلاقية قبل أن تكون مالية. فالدولة القوية لا تُقاس فقط بقدراتها الأمنية أو مؤسساتها السياسية، بل بقدرتها أيضاً على صون كرامة مواطنيها وتأمين أساسيات حياتهم على أمتداد أرضه.
لقد بات تأخر صرف الرواتب في إقليم كردستان أزمة متكررة، ومع كل أزمة جديدة تتآكل ثقة المواطن بمؤسسات الدولة الاتحادية، وتتعاظم مشاعر الإحباط واليأس في اوساط المجتمع، خصوصاً بين الفئات العاملة في القطاع العام، التي تمثل عماد الوظيفة والخدمة العامة.

ومع كل تأخير تنكمش دورة الاقتصاد المحلي، وتتعطل عجلة الإنفاق، وتتعمق حالة الركود في الاسواق. فالموظف ليس فقط مستهلكاً بل محركاً أساسياً للأقتصاد، وغياب راتبه يعني غياب القدرة الشرائية، وبالتالي تراجع الطلب، وإفلاس مزيد من أصحاب الأعمال المهمة، التي تلعب دوراً في عملية الاقتصاد الإنتاجي للبلاد عموماً وفي الأقليم خاصة.

قد يعجبك ايضا