د. ابراهيم احمد سمو
قيل إنه لم يكن ينام كغيره من الناس. كانت الأفكار تطارده حتى في أحلامه، وكأن النوم لم يكن إلا موتًا مؤقتًا يُقاس بالأنفاس. لم يكن يثق بقدوم نهار جديد، فقد اعتاد أن يعيش كل يوم وكأنه الأخير. لم تتوقف حركة القلم الذي حُمل بين أصابعه، ولم يعرف الفكر الذي سكنه راحة أو استراحة. كأن البركان الذي يسكن صدره لا يعرف سوى الانفجار، وكانت ذاكرته ديسكًا لحياةٍ لم تُغلق صفحاته بعد.
قيل إنه فُتح ذلك الديسك ذات مساء من عام مضى، فخرجت منه رائحة الماضي كأنها فُتحت صدفة قديمة نُسيت في قعر البحر. ما كان قد مُحي واحتُفظ به في سلة المهملات، عاد للحياة من جديد. أسرار لم تُرد يوماً أن تُقال، وذكريات مؤلمة لم يرد صاحبها أن تمر من جديد، كلها عادت تصرخ بصوت الماضي.
كان القلم، كما يُقال، لا يتوقف. يُشبه السيل في عناده، يجرف كل شيء، وينسى في طريقه كل ما حوله: الأطفال، الأهل، حتى الزمن. صار يكتب وكأن لا شيء يهم، وكأن الحياة كلها حُصرت في فكرة تُطارد الحبر. وحدث ما لم يكن متوقعًا… بدأ الناس يقرأون! من كان يسخر منه بات يستمع له، ومن ظن أن كلماته تذهب هباءً، بات يبحث عن مقالاته وكتبه في كل زاوية.
قيل إن الكلمات كانت تخرج منه دون سابق إنذار، كأمواج البحار، لا تنتظر دعوة، ولا تستأذن صاحبها. صارت الكتابة أمانة، وصار هو حارس صندوق الأسرار، لا يملك إلا أن يفتحه ويكشف ما بداخله، حتى وإن كانت فيه جراح لم تندمل.
قبل أعوام، قيل إنه قرر أن يكتب كل شيء… كما هو، دون تجميل، دون أسماء، فقط من أجل التوثيق، من أجل الذاكرة، من أجل الأجيال. كان يرى في هذا الصندوق خلاصًا، وفي الألم حكمة، وفي قول الحقيقة قوة لا تملكها الأقنعة. في مقالاته حكى عن أشخاص وُلدوا من أجل تعب الناس، وآخرين وُلدوا لخدمتهم، وكان يرى في هذا التناقض صراعًا أبديًّا بين الخير والشر.
قالوا إنه آمن بأن العقل سيعود، حتى وإن بعد سنين. وإن الحكمة قد تتأخر لكنها لا تغيب. لم يكن يكتب للزمن فقط، بل للحساب. كان يُدرك أن التدوين هو السبيل الوحيد لتثبيت الحقيقة في أرشيف الحياة، وكان يؤمن أن مرارة الدنيا، رغم قسوتها، أطيب من فناء بلا أثر.
قيل إنه حاول التحفّظ أحيانًا، لكن الحقيقة كانت أقوى من الصمت. كتب كل شيء كما هو، لكنه احتفظ بالأسماء لنفسه، احترامًا للجو العام، وحرصًا على أن يبقى النص شاهدًا لا قاضيًا. قالوا إنه كان يكتب من أجل أن يتعلّم الناس، ويعلّموا أبناءهم، أن الدنيا لا تُعطي الأحلام مجانًا، بل تضعها على قمم الجبال، وتطلب منهم التسلق دون حبال.
ولأنه اقترب من نهاية الطريق، كما يقول من عرفوه، فقد صار أكثر صدقًا. لم يعد يخاف من العثرات، ولا من نظرات الحاقدين. صار يكتب بعين من فهم اللعبة، وأراد أن يوثقها قبل أن تُغلق الستارة.
قيل إن النجاح، وإن تأخر، قد اقترب. وإن التوفيق، بفضل الله ثم بدعاء الأحبة، قد صار أقرب مما ظن. أما هو، فقد اكتفى بأن الكلمات خرجت، وأن القصة كُتبت، وأن الصندوق لم يعد مغلقًا بعد الآن