محمد رمضان الحميداوي
في زاوية منسية تقبع مدينةٍ لا أحد يعرف لها اسمًا تعيش فيها جموعٌ من الناس كأنهم خُلقوا من حزنٍ قديمٍ تراكم عليه غبار الزمن. كانت الأزقة ضيقة، لا تتّسع لشخصين معًا، والبيوت مبنيّة من كتلٍ إسمنتية رمادية، كأنها قلوب ساكنيها.
الأطفال هناك لم يعرفوا طعم الطفولة. لم يلعبوا يومًا إلا بالحصى والطين ولم يحلموا إلا بخبزٍ ساخن والقليل من الحلوى التي تراود أحلامهم
الكبار، كانوا وجوهًا متجهمة،
الوقت يسير ببطءٍ كأنّه يجرّ العالم على أكتافه أعينهم زجاجية، لا تلمع، لا تخاف، ولا تتأمل.
في المقاهي المهترئة، جلس الرجال يتبادلون أحاديث الخنوع. يشتمون الظلم لكنهم لا يقفون في وجهه يشربون الشاي الأسود كأرواحهم، ويضحكون كلما تحدّث أحدهم عن فكرة الثورة، كأنّ الحلم صار نكتة.
في أحد هذه الأزقة، عاش “نبيل”
لم يكن نبيلاً كما اسمه، بل مسحوقًا معدما مثل الجميع، لكنه كان يحمل شيئًا فيه من الر فض ولا يصدّق أن هذه الحياة هي الحقيقة الوحيدة. كان يجلس كل مساء على سطح بيته المتصدّع، يراقب المدينة وهي تنطفئ، بيتًا بيتًا، كأنها تموت كل ليلة وتُبعث من رمادها مع شمس الشقاء.
قال لصديقه ذات يوم:
“لماذا لا نثور؟”
ضحك صديقه وقال:
“على من؟
على الجوع أم على الله؟
أم على الحاكم أم على أنفسنا؟
نحن يا نبيل لانعرف مايدور خارج أسوار مدينتنا وذاك يكفي.”
أما الحب في هذه المدينة، فكان ورقة يابسة في مهب الريح
تتزوج الفتاة بمن يملك سريرًا، لا قلبًا. ويخون الرجل زوجته بحثًا عن لحظة يشعر فيها أنه لا يزال يفعل مايشاء ويثبت رجولته او شجاعته او تمرده . والكل يضحك حين يسمع كلمة “حب”، كما يضحكون على كلمة “عدالة”.
وفي ليلة رمادية من شتاءٍ بائس، قرر نبيل أن يفعل شيئًا. كتب منشورًا طويلًا وعلّقه على كل جدارٍ متهالكٍ في الحي، كتب فيه:
“أيها الناس، أنتم لستم حجارة.
أنتم لستم عبيدًا.
أنتم لستم موتى.
قوموا!
قولوا لا!
حتى لو كانت آخر كلمة تقولونها.”
و في الصباح، مرّ الناس بالمنشور. بعضهم قرأه، ثم بصق على الجدار. بعضهم ضحك. أحدهم قال:
“مسكين من كتب هذا المنشور ما زال يصدّق أن شيئًا سيتغيّر.”
ونبيل يراقبهم عن كثب دون أن يشعروا به
وفي اليوم التالي، اختفى نبيل. لم يره أحد، ولم يعرف أحد إلى أين ذهب. ظنّ البعض أنه انتحر، وقال آخرون إن الحكومة أخذته، لكن الحقيقة كانت أغرب من ذلك.
في اليوم الأربعين لاختفائه، حدث أمر غريب. استيقظ أهل المدينة على ضوء غريب ينبعث من وسط الساحة المهجورة. تجمّع الناس، فرأوا “نبيل” واقفًا هناك، يرتدي بدلة بيضاء، ووجهه صافٍ بشكلٍ رهيب
قال لهم بصوتٍ عميق لا يشبه صوته:
“أنا لم أعد كما كنت. أنا رأيت ما وراء الجدران، ما خلف الغبار، وعرفت الحقيقة.”
سأله طفل:
“ما هي الحقيقة؟”
ابتسم وقال:
“أنكم لستم موجودين أصلاً.”
ضحك الجميع، لكن قبل أن ينطق أحدهم بكلمة، بدأت الجدران تتلاشى، الأزقة تنكمش، البيوت تنهار كأنها من دخان. الناس بدأوا يذوبون، يتبخرون، واحدًا تلو الآخر.
صرخ أحدهم:
“ماذا يحدث؟
قال نبيل:
“الحقيقة يا أصدقائي… أنكم حلم في رأس ميت، وأنا فكرة في رآس حي وجدتها الأن
واختفى كل شيء.