مهند محمود شوقي
على مدى سنوات، ركّزت الحكومات العراقية المتعاقبة بشكل كبير على تطوير قطاع النفط، في حين تمّ إهمال الغاز الطبيعي رغم أهميته الاستراتيجية. أدى هذا الإهمال إلى ترسيخ اختلال عميق في بنية الاقتصاد العراقي، إذ تمثل عائدات النفط أكثر من 90% من إيرادات الدولة، مقابل أقل من 10% من مصادر غير نفطية — معادلة غير مستقرة كان من المفترض معالجتها بخطط إصلاح جدية منذ عام 2003.
في عام 2020، أطلقت حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي “الورقة البيضاء”، وهي خطة إصلاح اقتصادي واعدة بدعم فني ومالي واسع. إلا أن الخطة لم تجد وقتًا كافيًا للتنفيذ. مع وصول حكومة محمد شياع السوداني، تم التخلي عن الورقة البيضاء لصالح “منهاج حكومي” يهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط من 90% إلى 80%. لكن هذا التوجه لا يمثل تحولا حقيقياً بعيداً عن الاقتصاد الريعي.
محاولات زيادة إنتاج النفط لن تحقق الإصلاح المنشود، لا سيما في ظل التزامات العراق تجاه أوبك وأوبك بلس، التي تحد حالياً الإنتاج بـ3.3 ملايين برميل يوميًا، مع إمكانية رفعها إلى 3.5 ملايين في أفضل الحالات. وحتى إذا زاد الإنتاج، فلن يكون كافياً في حال تراجع الأسعار، كما حدث في مارس الماضي حين هبط سعر البرميل إلى نحو 60 دولاراً، وهو أقل من السعر المعتمد في الموازنة (70 دولاراً).
في هذا السياق، يشكل الغاز الطبيعي فرصة ذهبية. يمتلك العراق احتياطياً هائلاً يقدر بـ127 تريليون قدم مكعب، يكفي لأكثر من قرن، وفق تصريح رسمي لوزارة النفط في فبراير. ومع ذلك، لا يزال العراق يستورد نحو 50 مليون متر مكعب من الغاز يوميًا من إيران، بالإضافة إلى الكهرباء، بتكلفة سنوية تبلغ 7-8 مليارات دولار.
في 2024، وقع العراق عقداً جديداً مع إيران لمدة خمس سنوات يُلزم بغداد بالاستمرار في الشراء حتى لو تحقق الاكتفاء الذاتي قبل انتهاء المدة. والأسوأ أن العراق يدفع أسعاراً تصل إلى ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي، في حين تقل إيران غالباً عن التزامها بالكميات، كما حدث حين خُفضت الإمدادات إلى 20 مليون متر مكعب دون سابق إنذار.
الأزمة ليست مالية فقط، بل تتفاقم بسبب الانقطاعات. عندما انقطعت واردات الغاز، كما حدث لمدة 40 يوماً في بداية العام، فقد العراق بين 7 إلى 8 آلاف ميغاواط من الكهرباء. العجز الحالي يتجاوز 28 ألف ميغاواط. وزير الكهرباء كشف مؤخراً أن القدرة القصوى للتوليد لا تتجاوز 27 ألف ميغاواط، في حين قد يتجاوز الطلب ذروته الصيفية 55 ألف ميغاواط، ما ينذر بصيف قاسٍ.
المفارقة أن بغداد رفضت سابقاً شراء الغاز من إقليم كردستان – وخصوصاً من حقول السليمانية – لأسباب سياسية. واليوم، وبعد تراجع الإمدادات الإيرانية، وافقت الحكومة الاتحادية على شراء 100 مليون قدم مكعب يومياً من الإقليم، وهو اعتراف ضمني بنجاح حكومة الإقليم حيث فشلت الحكومة الاتحادية، رغم محدودية موارد الإقليم مقارنة بالعراق الاتحادي.
الأدهى أن وزارة النفط ترغب في شراء غاز الإقليم بسعر أقل بكثير من سعر الغاز الإيراني، رغم أن الأخير يُستورد من دولة أجنبية وبكلفة أعلى بثلاث مرات. هذا التناقض يكشف خللاً جوهرياً في سياسة الطاقة العراقية.
يمتلك العراق نوعين من الغاز: الغاز المصاحب الذي يُحرق هدراً في حقول النفط، والغاز الحر الموجود في حقول مستقلة مثل عكاز في الأنبار، المنصورية في ديالى، والسيبة في البصرة. لكن وزارة النفط تأخرت في تطوير هذه الحقول لأسباب غالباً سياسية أو بسبب أجندات خارجية.
على سبيل المثال، تمّ منح حقل عكاز لشركات غير متخصصة، من بينها شركة أوكرانية تبين لاحقاً أن مالكها يدير صالون تجميل. سبق وأن عُرض الحقل على شركة أرامكو السعودية – أحد عمالقة الطاقة في العالم – لكن العرض تم تجاهله، ربما بسبب مخاوف من “عدم رضا الجارة الشرقية”.
السيناريو ذاته ينطبق على حقل المنصورية، الذي أُعطي مؤخراً لشركة آسيوية وسط شكوك جدية تنفيذ المشروع في ظل ضغوط خارجية تهدف إلى إبقاء العراق تابعاً في ملف الغاز.
العقد الوحيد الذي يبدو أنه يتقدم هو عقد “توتال إنيرجي” الفرنسية، الذي يشمل استثمار الغاز، وزيادة إنتاج النفط، وتحلية المياه، وإنشاء محطة طاقة شمسية بقدرة 1000 ميغاواط. بدأت الشركة العمل فعلياً بعد تأخير استمر عامين، بتمويل مشترك من قطر – الحليف القريب من إيران – مما قد يفسر غياب العراقيل المعتادة.
حتى تجربة إقليم كردستان لم تسلم من الاستهداف. حقل كورمور، الذي ينتج أكثر من 500 مليون قدم مكعب يومياً، تعرّض لهجمات صاروخية وطائرات مسيرة بعد أيام من إعلان خطط التوسع. الرسالة كانت واضحة: “الغاز الطبيعي خط أحمر”.
تراجع النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان واليمن، لكن العراق لا يزال ساحة نفوذ حيوية. مع ضعف الأدوات السياسية والعسكرية الإيرانية في الداخل العراقي، تبرز فرصة نادرة لبغداد لاستعادة سيادتها على ملف الغاز وإنهاء فصول الهيمنة الطاقوية.
المطلوب اليوم ليس فقط استثمار الغاز، بل التحرر من القوى التي تعيق ذلك. المشكلة ليست في نقص الغاز، بل في نقص الإرادة السياسية والقدرة على اتخاذ القرار السيادي.