د. توفيق رفيق التونچي
المدن لا تشيخ لتنهار وتموت، بل تبقى آثارها بعد دهور ودهور تحت التراب او تتطور وتنمو وتبقى تقطنها البشر لحد يومنا هذا كما عليها قلاع مدن كركوك، أربيل، كما هي عليها كذلك بغداد، دمشق، أصفهان، الرها، أنطاكية والقدس ومدن أخرى في الشرق والغرب لا تزال عامرة بأبنائها.
المدن في جميع أنحاء الدنيا بصورة عامةً ليست من نتاج حضارات شعوب بدوية متنقلة، بل معظمها أسسها الأقوام المستقرة. البدوي لا يعرف الاستقرار والبناء، بل التنقل وعلىً راي ابن خلدون إذا استقر عمر وبنى الحضارات. البداوة تعتمد على مجتمعات رعوية تتنقل دوما مع الإبل من اجل الكلأ ان كانت في الصحاري او سهول و وديان منغوليا وأواسط أسيا والجزيرة العربية وأفريقيا. لذا لا نجد مدن في الصحاري، بل فقط على ضفاف الأنهار وسواحل البحار. اما الفلاح فيكون مستقرأ ومرتبطا بالأرض الذي يزرعه وهم اي الفلاحون المستقرون أوائل بناة المدن والحضارات. الشعوب البدوية والرعوية المتنقلة والتي تركت مراعي أواسط اسيا قبل حوالي ألف عام استقرت حين وصلت إلى مناطق متحضرة ومدنيات في الشرق كما حصل مع وصولهم إلى ايران والعراق والأناضول.
اما الشعوب البدوية الصحراوية فلا نرى في الخرائط القديمة وجود لمدن في الصحراء لقساوة البيئة الصحراوية وندرة المياه والغطاء النباتي. اما الأقوام القادمة من الصحراء الغربية فقد انتقلت من مكان إلى آخر في الصحراء الواسعة وكان حدودهمً نهر الفرات. لهذا لا نجد مدن تعود إلى ألف عام أسسها تلك الأقوام، بل سكنوا المدن التي بناها شعوب قبلهم حين غزوا تلك الممالك وكما ذكرت التقائهم بالشعوب المستقرة والمتحضرة أدى إلى استقرارهم وحتىً ترك عقائدهم القديمة وثقافتهم والقبائل المغولية والتتار والأتراك أمثلة على تلك الأقوام وبقى حب الصحراء وحياة البداوة كحلم لا يترك البدوي العربي وحتى بعد مئات الأجيال فهم يشتاقون إلى حياة البداوة ورائحة الرمال وبيوت الشعر.
حياة البدوي لا يتعدى الخيمة ورعي الإبل كما نرى بان ليس هناك اي مدينة أسسها هؤلاء لان الصحاري لمً تكن مناسبةً للاستقرار وبناء المدن وترابها لم تكن صالحة للزراعة ناهيك عن قلة المياه. مواد البناء كان أيضاً عائقا في بناء المدن لذا نرى انتشار المدن في مناطق توفر الأحجار خاصة في بلاد الشام وكوردستان.
حياة البدو في الصحارى
اما الشعب الغجري الذي بقى محافظة على تراثهم في التنقل والسفر كذلك (اليهودي التائه) وعدم الاستقرار أينما حلوا ونادرا ما نجد مدينة معظم سكانها منهم، بل ينتشرون في معظم مدن العالم متنقلين غير مبالين حتى للحدود الوطنية للدول حتى يومنا هذا. هناك شعوب كثيرة استقرت في مدن أسسها شعوب امتزجت معهم تاركين ارثهم نتيجة الحروب والغزوات والاحتلال وفرض ثقافةً المحتل. جميع مدن الشرق أسسها شعوب مستقرة ونماذجها منتشرة في اور ، بابل، نينوى ، آشور، أربيل ، كركوك ، دمشق ، استانبول، أنطاكية، قدس، حلب، الرها، صيدا وعشرات المدن الأخرى. وحتى في شمال أفريقيا تنتشر المدن في السواحل وعلى ضفاف الأنهار ونادرا تتواجد وسط الصحراء.
مواد البناء في بابل
هناك مدن كانت في الأساس ملتقى للفلاحين وأسواق كانوا يلتقون فيها في مواسم معينة لتبادل البضائع والتسوق. البيئة عامل أساسي للتوطن والاستقرار واعمارها يتطلب ان تكون ملائمة للعيش والترحال لذا لا نرى مدن عامرة في صحراء سيناء او في الربع الخالي مثلا.
قلعة كركوك* هدمها أيادي البعث بعد ان بقت عامرة منذ الحضارات العراقية القديمة.
ورغم صعوبة الحياة في الجبال إلا أننا نجد العديد من المدن قد عمرت في الجبال وربما لأسباب عسكرية ودفاعية لأنها تكون صعبة الاحتلال من قبل الأعداء ويكون الجبل ساترا ومانعا للهجمات. ونرى ان معظم القلاع تقع على المرتفعات والتلال كما في قلعة كركوك واربيل.
وهناك مدن عمرت كانت معسكرات للجيش او لمجرد كونها تقع على طرق القوافل كما هي عليها مدن طريق الحرير ومدن أخرى عمرت لأنها كانت أسواق يلتقي فيها الناس في مواسم معينة لمقاضاة السلع والمنتوجات والحيوانات. غير أننا نجد كذلك مدنا مقدسة وهي في الأصل مكان نزل فيه الأنبياء والقديسين والرجال الصالحين فتحولت مراقدهم إلى مدن ونرى في العراق مدنا وسط الصحراء مقدسة كما هي عليها مدينة كربلاء حيث حصل فيها واقعة الطف واستشهد فيها الامام الحسين عليه الصلاة والسلام ومن معه من الشهداء الأبرار.
من الطبيعي ان بعض الموانئ الطبيعية ان تتحول مع الزمن إلى مدن وتتوسع والجدير بالذكر بان سكان تلك المدن عادة يتميزون بثقافتهم العالية وبانتمائهم العرقي التعددي لكثرة اتصالهم عن طريق البحر بالأمم الأخرى نرى في مجتمع مدينة البصرة نموذجا. نرى كذلك ان العديد من المدن الأوربية تم بنائها حول كنيسة او كاتدرائية ثم توسعت.
ولعدم وجود الصحراء في أوربا إلا في منطقة صغيرة في إسبانيا لذا نجد انتشار المدن بكثافة ومتقاربة. بابل لا تزال تروي حكايات ومنذ دهور وعلى ذكر إسبانيا نجد فيها مدنا ذو طابع شرقي وهي بالطبع ليس طابعا من الجزيرة العربية، بل تمثل بالكامل مهارة البناء والمعماري القادم من الشام ويذكر المؤرخون بان حتى الفينيقيون شاركوا في حضارة شبه الجزيرة الإيبيرية ومن بعدهم الرومان. الخزف الشامي منتشر كثيرا في البناء القديم وتعتبر إرثا ثقافيا جاء من الشرق وكما لثقافات شعوب الشمال الأفريقي القديمة الأثر الأعظم في العمارة والكتابة، الخط والزخارف في الأبنية القديمة والقصور.
البيئة البدوية عادة صحراوية وخالية من البناء الحجري إلا ما ندر ونرى ذلك جليا في مدن بابل وسومر حيث الطوب المادة الأساسية للبناء، ولكننا نرى الحجر مادة البناء في آشور في الشمال حيث البيئة الجبلية. تطور المدن يعتمد على سواد حالة السلام وعدم تعرضها للهجمات وحرقها او وجودها في خطوط العروق البركانية واختفائها نتيجة الزلازل او احدى الكوارث الطبيعية قلعة أربيل اقدم مدينة مأهولة بالسكان نرى في مدينة أربيل مثلا لتطور المدينة من قلعة علىً تلة مرتفعة الىً مدينة عامرة خاصة بعد سواد السلام والاستقرار السياسي في إقليم كوردستانً بعد سنوات من الحرب والقصف بالمدافع والطائرات وكل الحمم من قنابل التي ألقاها طائرات الأنظمة العراقية المتعاقبة على حكم العراق منذ تأسيسها كدولة إلى عام ٢٠٠٣ حين سقط النظام واحتل العراق ومع تأسيس الدولة منً جديد جاءت الأجواء الملائمة مع إعلان الحكم الفيدرالي الاتحاديّ استقر الإقليم مما دفع بالاستثمارات بصورة عامة والعقارية ازدهر البناء والعمار والبنية التحتية رغم جميع المعوقات.
كل ذلك أدى إلى ازدهار مدن الإقليم وتوسعها. كما كان العامل الاقتصادي السبب الأساسي لتطور مدن الخليج العربي وكانت عائدات النفط والغاز التأثير المباشر لتطور والرفاهية في تلك المدن في ساحل الخليج العربي من الكويت إلى دبي.
الإرث البدوي يبقى الناس شغوفين ومشتاقين للحياة البرية والسكن خارج المباني في الخيام فتلك أسلوب حياة اعتادوا عليها منذ دهور. اما السكن في المدن فهو لمن أراد الاستقرار وممارسة التجارة او العمل والدراسة وبطبيعة الحال فيها اي في الحياة الحضرية تقدم الخدمات وتؤمن حياة مستقرة ومدنية متحضرة.
السويد
2025
مصدر الصور؛ الإنترنت
أشارات:
*لمشاهدة اكبر جريمة ضد الإنسانية التي اقترفتها أيادي القوميين البعث في قلعة مدينة كركوك التاريخية والتي حمت أرواح البشر من عصور الحضارات العراقية القديمة. وهذا نداء الى منظمة اليونسكو من اجل إنقاذ ما تبقى من اثأر في القلعة كتراث للإنسانية جمعاء.
لاحظ وجود مراقد لثلاث أنبياء من اليهود وكنيسة ومقابر وجوامع وبيوت تراثية. وربما اتخذت يونسكو قرار بالإدراج قلعة مدينة كركوك كتراث للإنسانية جمعاء لوجود القيمة العالمية الاستثنائية من الناحية الثقافية، وسيتم إدراجها تحت المعايير الثقافية الإنسانية وعلى أنها شاهد فريد واستثنائي على حضارات حية، وأن تكون في المستقبل مثالاً بارزاً على نوعية فريدة من البناء والمعمار ومثالاً تقنياً ومخططاً يوضح مرحلة مهمة من تاريخ البشرية.
انقر على الرابط التالي:
Bing Videos
Bing Videos