إلى أين تقودنا الأيام القادمة؟ لعبة الأمم وتغيّر الخرائط !

 

 

د. إبراهيم أحمد سمو

لقد ولّى زمن سحق الشعوب، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى في ظل هذا السيل الجارف من الإعلام العالمي وشبكات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت توثق الأحداث وتفضح المستور، وترصد الاستبداد وتكشف آلياته. لكن خلف هذا الضجيج المرئي والمسموع، ثمة ما هو أعمق وأخطر… هناك خرائط تُرسم في الخفاء، وتحالفات تُبنى بصمت، ومصائر تتغيّر دون أن يدركها البسطاء منّا، أو حتى يملكوا القدرة على فهم مآلاتها.

 

باتت ملامح تقسيم المنطقة أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. المشهد يعيدنا إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حين سلّمت بريطانيا سوريا إلى فرنسا وفق تفاهمات استعمارية، وها نحن نشهد اليوم نسخة جديدة من هذا التسليم، ولكن بأدوار مختلفة: أمريكا تدعم وتبارك شكلًا جديدًا لسوريا، ثم تنسحب جزئيًا، لتترك المسرح ضمنا للمجهول . ولكن، مقابل ماذا؟ وماذا ستحصده الولايات المتحدة؟ يبدو أن الجواب مرهون بفصول لعبة كبرى، ما زال كثير من مشاهدها طيّ الكتمان.

 

هذه اللعبة أكبر من قدرة دولة واحدة على إدارتها، حتى وإن كانت دولة عظمى. فالمشهد الدولي محكوم اليوم بسيمفونية غريبة تُعزف على أوتار التحالفات الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية، في زمن أصبحت فيه التكتلات عابرة للحدود والمبادئ. هذه التكتلات ترسم العلاقات بين الدول، وتحدد المسارات التي ينبغي على الجميع السير فيها، علنًا أو سرًا، برغبة أو اضطرارًا.

 

ما نراه اليوم من تحولات سياسية واقتصادية وأمنية ليس عشوائيًا، بل هو نتاج هندسة معقدة يُراد لها أن تعيد تشكيل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة. ومع ذلك، لا يدرك عامة الناس حجم هذا المخطط، ولا كيفيته، ولا توقيته. إذ إن اللعبة تُدار بدهاء، وتستغل نقاط الضعف بمهارة عالية.

 

الدول الكبرى لا تصنع الأزمات من فراغ، بل تبحث عن مواضع الخلل وتضخّمها، وتسلط عليها الضوء، وتحوّلها إلى ذريعة للتدخل. وأين تجد هذه الأرضية الخصبة أكثر من العالم العربي؟ إنه الإقليم الذي يعاني من حكومات ضعيفة القرار، مستبدة بشعوبها، فاقدة للإرادة السياسية والاقتصادية، مما يجعل تغيير رأس السلطة فيه أسهل من تغيير موظف في مؤسسة صغيرة. لا يحتاج الأمر أكثر من ساعات أحيانًا ليُستبدل نظام بآخر، ويُعاد ترتيب المشهد بما يخدم مصالح الخارج.

 

الخطورة لا تكمن فقط في هشاشة الحكومات، بل في المزاج الشعبي نفسه، الذي بات متلهفًا لأي تغيير، حتى لو لم يكن في صالحه، أو لم يكن هناك بديل مطروح أصلاً. المهم هو التغيير، لا الاتجاه ولا الغاية. لقد تحوّل التغيير إلى “موضة” تستهوي الشارع، لا إلى مشروع استراتيجي نابع من الوعي والمسؤولية.

 

هذا ما جرى في موجة ما سُمي بـ”الربيع العربي”، والذي كان في حقيقته أقرب إلى جحيم لا يُطاق منه إلى ربيع مأمول. لم تُحقق تلك الانتفاضات تغييرًا نحو الأفضل، بل خلفت وراءها دمارًا، وقتلاً، ونهبًا، وانهيارًا للمؤسسات، وتفككًا للمجتمعات. وتحوّلت بعض البلدان إلى مسارح مفتوحة للميليشيات، وتحولت الثروات إلى غنائم تتقاسمها قوى الداخل والخارج.

 

منصات التواصل الاجتماعي، تحولت إلى مساحات للتعبئة والتحريض، ولكنها عجزت عن أن تكون أدوات لبناء البدائل. خرجت الجماهير إلى الساحات، ولكن بلا مشروع وطني جامع، وبلا قيادة راشدة، وبلا أفق واضح. لذلك، فإن أي موجة احتجاجية جديدة يجب أن تُبنى على أسس مختلفة تمامًا، وإلا فإن الفوضى ستكون أقرب من الإصلاح.

 

لابد من الاعتراف أن الحراك الجماهيري – على مشروعيته – يمكن أن يُستغل من جهات متعددة: جهات تدفع الأموال، أو أخرى تنتمي إلى أحزاب معارضة، أو حتى قوى خارجية تتلاعب بالداخل. هذا ليس محصورًا بالدول الضعيفة فقط، بل يحدث حتى في الديمقراطيات الدول الكبيرة، غير أن تلك المجتمعات تمتلك وعيًا سياسيًا، ونظامًا مؤسساتيًا يحمي الاحتجاج من الانحراف.

 

وإذا كان لنا أن نُفكر في التغيير بجدية في العراق اليوم ؛ فلابد من الانتقال من الانفعال إلى التخطيط، ومن التذمر إلى تقديم البديل. ولا بد أن تكون الانتخابات المقبلة – إن أُجريت – مبنية على التمثيل الحقيقي، والرؤية المشتركة، والهدف الوطني، لا على الولاءات الفئوية أو الانفعالات العابرة. وعلى الكورد أن يدركوا جيدًا هذه المرة أن الوقوف خلف هذا أو ذاك دون دراسة وتبصر لن يعود عليهم إلا بالندم، كما حدث في مرات سابقة.

 

ما يعنيني هنا هو التحذير من السقوط في فخ “اللا بديل”. فعندما تكون الساحة فارغة من الرؤى، يكون الخيار الوحيد هو القبول بأي بديل، حتى وإن كان أكثر سوءًا مما سبق. ولهذا، فإن التغيير الحقيقي يجب أن ينبع من الوعي، وأن يبدأ من رسم خارطة الطريق بعقولنا، لا بعواطفنا.

 

كل ما يحدث اليوم سيؤثر حتمًا على الغد. وقد نجد أنفسنا – نحن الكورد – جزءًا من هذا المشهد الكبير، شاء البعض أم أبى. وعلينا أن نكون على قدر اللحظة، وأن نتحرك بعقل جماعي موحد، لا بعشوائية فردية.

 

المرحلة المقبلة مفتوحة على كل الاحتمالات. كل شيء مرسوم على طاولة هندسية لا تعترف بالحدود التقليدية. ومن يملك القلم هو من يخط المصير. أما نحن، فعلينا أن نملك إرادتنا قبل أن نتحدث عن مصيرنا.

 

فهل نحن مستعدون؟ هل نملك الأدوات، والوعي، والرؤية، لنكون فاعلين لا أدوات في يد الآخرين؟ أم سنظل ننتظر حتى يُعاد تشكيلنا كما تُعاد رسم خرائط الجغرافيا من حولنا؟

 

الحذر وحده لا يكفي. المطلوب أن نتوحد، أن نصالح أنفسنا، وأن نطرح على أنفسنا أسئلة جوهرية: من نحن؟ ماذا نريد؟ وإلى أين نريد أن نذهب في عراق فيدرالي تتقاذفه الأمواج .

قد يعجبك ايضا