محمد علي الحيدري -واشنطن
منذ إقرار الدستور العراقي عام 2005، تبنّت الدولة العراقية نموذج الفيدرالية كصيغة لضمان وحدة البلاد من جهة، وتلبية تطلعات مكونات رئيسية نحو الحكم الذاتي من جهة أخرى. وقد مثّل إقليم كردستان النموذج الوحيد القائم فعليًا للفيدرالية داخل العراق، ما جعل التجربة الكردية محكًّا دائمًا لاختبار مدى التزام الدولة المركزية بمبدأ الشراكة الدستورية.
لكن هذه التجربة، التي نشأت على أمل تجاوز مآسي القرن العشرين وتوزيع السلطة والثروة بعدالة، سرعان ما واجهت تحديات بنيوية، لم تكن مجرد انعكاسات لخلل سياسي طارئ، بل تعبيرًا عن صراع عميق بين رؤيتين للدولة: رؤية تُعيد إنتاج المركزية تحت عباءة النص الدستوري، وأخرى تسعى إلى تفعيل الفيدرالية كضمانة للعدالة الجغرافية والتوازن الوطني.
تكشف أزمة الرواتب بين بغداد وأربيل، والتي تعود بتواترها إلى سنوات ما بعد 2014، عن عطب مزمن في العلاقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم. ففي حين تتذرّع بغداد بغياب الشفافية أو بعدم التزام الإقليم بتسليم الإيرادات النفطية، يرى الإقليم أن السلطة الاتحادية توظف الملف المالي كورقة ضغط سياسية، لا كجزء من تنظيم دستوري للعلاقة بين السلطات. وتكمن المفارقة في أن النصوص الدستورية المتعلقة بتوزيع الثروات والسلطات—رغم وجود غموض في بعضها—تفتح الباب لتفاهمات مرنة تُدار بالتفاوض والمؤسسات، لا عبر التعليق الانتقائي للالتزامات.
ويعود الإشكال المركزي إلى غياب قانون لتحديد آليات توزيع الموارد المالية بين الحكومة الاتحادية والأقاليم، رغم مضي عقدين على الدستور. فالبرلمان لم يشرّع قانونًا واضحًا لتقاسم الثروة، والمحكمة الاتحادية العليا—التي أُنيط بها تفسير النصوص الدستورية—انزلقت في أحيان كثيرة إلى دور تحكيمي أقرب إلى الفاعل السياسي منه إلى الحكم المحايد، ما فاقم أزمة الثقة بين المركز والإقليم. ورغم كون المحكمة تمارس وظائف دستورية، فإنها لا تُعد محكمة دستورية مكتملة البناء القانوني، في ظل غياب تشريع خاص ينظمها على نحو مؤسسي متوازن (انظر الهامش التوضيحي).
من جهة أخرى، تتحمل النخبة السياسية الكردية بدورها مسؤولية في تعثّر التجربة الفيدرالية، حين عجزت أحيانًا عن بناء موقف تفاوضي موحّد، أو حين سمحت لحسابات داخلية بأن تُضعف خطابها الخارجي. كما أن عدم إقرار قانون للنفط والغاز في الإقليم نفسه، وتداخل السلطات بين الحكومة والحزب، خلق بيئة صعبة لتعزيز الشفافية والمساءلة، ما أثّر سلبًا على الموقف الكردي في مفاوضاته مع بغداد.
غير أن جوهر المشكلة لا يُختزل في هذه التفاصيل، بل يكمن في غياب الرغبة المركزية الحقيقية في الاعتراف بالفيدرالية كصيغة إدارة دولة، لا كمجرد ترتيبات انتقالية. ما تزال بعض القوى السياسية تتعامل مع الفيدرالية بوصفها تهديدًا للوحدة الوطنية، لا ضامنًا لها. وهذا التصور ينعكس على سلوكيات سياسية تتّسم بالتردد، بل أحيانًا بالعدائية، إزاء أي استقلالية تُمارسها حكومة الإقليم، حتى في المجالات التي يكفلها الدستور صراحة.
إن التجربة الفيدرالية في العراق لم تُمنح شروط النجاح؛ فلا التشريعات اكتملت، ولا الثقة السياسية توفرت، ولا المحكمة الحَكَمية تم تحصينها مؤسساتيًا، ولا العقل السياسي المركزي تخلّى عن نوازعه التاريخية في احتكار السلطة. ومع ذلك، فإن مستقبل العراق كوطن متنوع لن يكون قابلًا للاستمرار من دون معالجة هذا الخلل البنيوي.
الفيدرالية ليست مجرد خيار إداري، بل عقد اجتماعي بين مكوّنات متمايزة، لا بد أن يضمن لكل طرف مكانته، وحقوقه، وأمنه السياسي والمعيشي. وحين تُختزل الفيدرالية في علاقة مالية متوترة، أو تُقيّد بقضاء غير مكتمل الشرعية، أو تُحوّل إلى ورقة ضغط ظرفية، فإن ذلك لا يؤدي إلا إلى إضعاف الدولة نفسها، ويغذي مشاعر الغبن التي لا تنفع معها لغة القانون ما لم تكن مصحوبة بإرادة الإنصاف.
إن الطريق إلى عراق فيدرالي حقيقي يتطلّب من بغداد أن تعيد النظر في علاقتها بالمكونات، لا بوصفها أطرافًا تابعة، بل شركاء في المصير والقرار. ومن أربيل، يتطلب الأمر خطابًا وحدويًا مدعومًا بالإصلاح الداخلي، لتعزيز قوة التفاوض والانتماء في آن. وما بين الطرفين، تبقى الفيدرالية أمانة معلقة برقبة الجميع، إما أن تُصان بالعقلانية، أو تُنهك بالعناد السياسي حتى آخر فرصة لوطن مشترك.
هامش توضيحي:
المحكمة الاتحادية العليا والمحكمة الدستورية
رغم أن المحكمة الاتحادية العليا في العراق تضطلع بمهام رقابية وتفسيرية تجعلها أقرب إلى وظيفة المحكمة الدستورية، فإنها ليست محكمة دستورية بالمعنى المؤسسي الكامل. فالدستور العراقي لعام 2005 نصّ في مادته (92) على إنشاء “محكمة اتحادية عليا” بقانون خاص يحدّد تكوينها واختصاصاتها وآليات تشكيلها. إلا أن هذا القانون لم يُشرّع حتى الآن، مما أبقى المحكمة في إطار قانون عام 2005، الذي لا يستوفي معايير المحاكم الدستورية المستقلة من حيث البناء المؤسسي والتمثيل المهني وتوزيع السلطات. وبالتالي، فإن المحكمة تمارس مهامًا دستورية دون أن تكون مؤسسة دستورية مكتملة من حيث التشريع والتأسيس، وهو ما يشكّل أحد مواطن القصور البنيوي في تجربة النظام الفيدرالي العراقي.