اعداد: عدنان رحمن
ورد في قسم من كتاب ألفّهُ الفرنسي ( پـيير ﭬـوصيل بعنوان [ الحياة في العراق خلال قرن ( 1814- 1914)]. الذي ترجمه د. اكرم فاضل، والذي كان يحتوي على مجموعة مراسلات للقناصل الفرنسيين في العراق ما يلي:
ورد في جزء من التوطئة:
– ” أيام اقامتي في بغداد، منذ بضع سنوات خلت، لفت نظري وجود خزانة خاصة بين خزانات السفارة تحتوي على محافظ لمجموعة من الوثائق يرجع تاريخها الى ما قبل عام 1914. ولكن هذه الوثائق والمستندات، التي يرقى الزمان بتواريخها الى السنوات الاولى للقرن التاسع عشر، والتي لم تأت عليها يد الدمار والبوار عبر سنوات انغماسنا في الحرب ضد الدولة العثمانية، وعلى الأخص التي كانت تعوزها وهي مراسلات قناصلنا”.
وورد في المتن:
– ” كان لاعلان الامبراطورية بعض الدوي في هذه الربوع، ففي 26 من شهر آب عام ( 1854) كتب كذلك قنصلنا في الموصل ( بلاس) العالِم الآثاري يقول: (( لقد ظل اسم نابليون اسما شعبيا في الشرق وبقي يعتبر في هذه الديار رمزا للقوة. اقول ذلك دون مداجاة او محاباة. لانني ما زلت اتذكر الاثر الذي احدثه هذا الاسم العظيم في بلادنا النائية عندما انتشر الخبر بانه ما فتىء ان يمسك مرة اخرى بمقدرات فرنسا. ولانني ازداد اندهاشا واستغرابا كل يوم من ان تاريخ الامبراطور يعرفه الناس هنا وهم على ما هم عليه من جهل مطبق لا يصدق اكثر مما يعرفون عن تواريخ سلاطينهم)). وينبغي لنا ان نقول ان ( مسيو بلاس) الذي كان يتحمل آنذاك مهمات قنصل الموصل ومتاعب العالِم الآثاري في ( خورصاباد) قد ساهم في جعل اسم نابليون اسما شعبيا في تلك المنطقة بفضل الاحتفال الذي كان اقامه لعماله بمناسبة اعلان الامبراطورية. وقصّ قصة هذا الاحتفال بنفسه في باريس في الخامسة والعشرين من شهر شباط عام ( 1853) فقال: (( لم يبلغني خبر اعلان الجمهورية إلا في غاية التأخر، ولكن ما ان تلقيت هذا النبأ حتى صممت على جعل عمالي الكثيرين يشعرون بشعور السعادة الذي عمّت الافراح من جرائه كل ارجاء فرنسا. وبعد اجراء المراسيم الدينية في الموصل توجهت الى ( خورصاباد) وأولمت وليمة هوميروسية واغدقت الثيران والاغنام والارز، حتى تم اطعام جميع العمال واكل كذلك منها النساء والاطفال، اما بالنسبة لهؤلاء العمال الذين لا يفقهون السلطة الا متجسدة في شخص العاهل فان هذه الحفلة كان لها مغزى عظيم نافع كل النفع لنفوذنا. وقد تجاوز التأثير هذه المنطقة بسريانه الى المناطق الجنوبية نتيجة ما عم هؤلاء الشغيلة من مسرات وافراح، وفي تلك الامسية عندما كانوا يرقصون حول ثور مجنح من المرمر هائل مستخرج من القصر الآشوري كان المغنون يهزجون بمقطوعات شعرية دام انشادها حتى ساعة متأخرة من الليل ترافقها ابيات نشيد بعظمة الامبراطور. ولدى نهاية كل مقطع كان الاعراب يضجون بالانغام على هيئة جوقة موسيقية قائلين: ( الله يجعل عُمُرْ باديشاه فرنسا الف سنة!). وكان هذا المشهد بالنسبة لي مشهداً لم أرَ أروع منه وانا اشاهد هذه الجموع الغفيرة التي اكاد اسميها همجية وهي تفرح وتمرح على هذه الدرجة من الحماس والفوران العاطفي في حين ان الاعمدة الحجرية العملاقة التي اضاءت وجوهها انوار المشاعل اللاهبة كانت تتأمل في شيء من الجمود هذا المنظر الغريب وهو الشاهد الاخرس بعد ثلاثة آلاف سنة على اعلان جمهورية جديدة في حين انها كانت قد رأت اقدم جمهورية في العالَم)). ولكن حيث لم يكن يوجد ممثل فرنسي يطلع السكان على قيام الجمهورية الثانية، فان الحالة كانت سائرة على نهج آخر مختلف كل الاختلاف. وان نائب قنصلنا في بغداد ( مسيو بليزييه) الذي التحق بمنصبه في عام ( 1866) عن الطريق البحر. كان قد اضطر على التنويه بهذه الحالة والافضاء بالامر الى رئيسه فكتب يقول: (( اقول لكم وللاسف يملأني حزناً، يا سيادة الوزير بانني استطعت اقناع نفسي في بندر عباس، خصوصاً في بندر شهر بقلّة من يعرف احوالنا في هذه السواحل البعيدة. لقد وصلت برحلتي الى البصرة مع تجار اغنياء من جزائر البحرين ومن بقاع الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية. وقد تحدثت طويلا مع هؤلاء اثناء الساعات الطويلة التي قضيناها في اختراق هذه الاماكن واستطعت كذلك ان اقنع نفسي بان الناس في بلاد هؤلاء ليست لهم أية فكرة عن عظمة وقوة حكومة الامبراطورية، وقد تحدث إلبّ إلى هؤلاء السكان عن سلطان الفرنسيين السابق بونابرت، الذي كان في نظرهم شيطانا لم تستطع قهره واستئصال شافته إلا انكلترا ( هكذا يزعمون). ولكنهم يجهلون جهلاً تاماً ان ابن اخ هذا الرجل العظيم يحكم فرنسا المكللة باكاليل الامجاد منذ قرابة عشرين عاما، ولكن مقابل ذلك كان هؤلاء الناس يعرفون كل شيء عن الملكة فيكتوريا)). وأيّاً كانت الحالة بين فإنّ الفرنسيين قد احتفلوا احتفالا فخما مهيبا في دور قنصلياتنا بعيد نابليون، احتفالا مشبهاً لاحتفالهم بعيد الملك المواطن. ولكن لسوء الحظ كانت تقييدات الميزانية تحول في بعض الاحايين دون اضفاء الابهة المرغوبة على هذه الاحتفالات. وقد شكا ( مسيو نيكولا) قنصلنا في بغداد بصورة خفية من هذه الحالة وذلك في رسالة وجهها الى وزارة الخارجية في 5 من شهر ايلول عام ( 1854) فكتب يقول: (( كما كان بودي ان اقيم مأدبة بمناسبة عيد الخامس عشر من ايلول كتلك المأدبة التي اقامها قنصل انكلترا في عيد الملكة، مأدبة شرعنا بتهيئة مقتضياتها واوشكنا ان ندعو اليها وجوه بغداد واعيانها، ولكنني تلقيت المنشور الذي لي شرف تلقيه من قبلكم بتاريخ 18 من شهر مايس الاخير ( )، فاضطررت اضطراراً على ايقاف عمليات التهيؤ وقبعت داخل وسائلي الضعيفة باقامة مأدبة عشاء حضرها جميع الفرنسيين وكل المشمولين بحماية فرنسا من المقيمين في بغداد، ومع ذلك فلم يكن الاحتفال البسيط هذا ليقل رونقاً وبهاء، لان الانخاب التي شربت مصحوبة بالهتاف بصحة جلالة الامبراطور وبنجاح جيوشنا لم تكن لتقل روعة عن انخاب الاحتفالات بملكة انكلترا وبالسلطان. ( ) ولم يكن دونها عدداً، وقد رفعت في ذلك اليوم اشارة الى الاتحاد التام السائد بين الدول المتحالفة الثلاث الاعلام الثلاثة: الفرنسي والانكليزي والتركي. اما الوالي الذي كان بيني وبينه سوء تفاهم بسيط من جراء تأخره في ارسال ممثله الى القنصلية ليقوم بالتبريكات المعتادة، الذي قدّم اعتذاراته المرغوبة بنفسه في دار القنصلية، فقد عنى كل العناية برفع العلم التركي على القلعة حيث ظل خفاقاً حتى غروب الشمس. واما قنصل انكلترا الذي انا واياه على خير ما يكون من الوئام فقد رفع هو ايضا العلم البريطاني على دار قنصليته)). ان الانظمة تزول واما الاعياد الوطنية فتبقى وتبقى معها مراسيم الاحتفالات التي لا تتبدل، ففي عام ( 1882) التمس نائب قنصلنا في بغداد ( مسيو بيربسييه) برسالة مؤرخة في الخامس والعشرين من شهر تشرين الاول نوع المعونة لمدارسنا الدينية. وحكم بنفسه على صلاح تبرير هذا الطلب بالاعتبار التالي: (( ان خادم حكومة الجمهورية المتواضع المخلص ليخون واجباته اذا لم يلفت انظار مقام معاليكم العالي الى موقف المبشرين في بغداد بوصفهم مواطنين. لقد كان موقفهم في جميع الظروف، يا سيادة الوزير، موقفا صحيحا صائبا، فقد تصرفوا تصرف الفرنسيين ونعم الفرنسيين، ولم يبد منهم اي اعتراض مهما كان طفيفا عندما طلبت منهم ان يهتفوا باللاتينية بدعاء سلامة الجمهورية، كما انهم لم يعارضوا في الهتاف بحياة الجمهورية الفرنسية كما هي العادة في ختام القداس الرسمي فهتفوا مع الهاتفين، ذلك الهتاف الذي رددته الجالية الفرنسية بأسرها)). وكانت تقام احتفالات مهيبة بمناسبة مرور شخصيات مرموقة ببغداد، وهو هو ( مسيو فيدال) نائب قنصلنا في بغداد يصف لنا في عام ( 1840) حفلة الاستقبال التي اقيمت لسفيرنا في طهران ( مسيو دي سيرسي) فيقول ما يلي: (( لي الشرف ان اخبر معاليكم بان ( الكونت دي سيرسي) قد وصل الى هذه الديار صحيحا معافى بعد رحلة صعبة دامت 30 يوماً في قطع المسافة بين اصفهان وبغداد، وقد خففت لاستقباله من مسافة ستة فراسخ مصحوباً برؤساء المؤسسات التجارية المشمولين بالحماية الفرنسية، ومعي كذلك شيخ عشائر ولاية بغداد وخمسون فارساً من قبل الباشا الذي هيأهم بناء على طلبي مسكناً مناسبا لمعالي السفير وحاشيته. وفي اليوم التالي ارسل الباشا صهره قائد القوات مع الاعضاء البارزين في مجلس الادارة مهنئين ( الكونت دي سيرسي) بسلامة الوصول. وامس زار سفيرنا الوالي فقوبل بترحاب وحفاوة فائقين، وكانت القوات العسكرية كلها مدججة بالسلاح، وانتظر الباشا وحاشيته كلها وجميعهم يرتدون الالبسة الرسمية لدى مدخل قصر الولاية خارج قاعة الاجتماعات الكبرى وصول معاليه، فلما وصل بسط الوالي اليه يده وادخله الى غرفة الاستقبال. لقد فقد الاسم الفرنسي اشراقه وبهاءه منذ بضع سنوات في هذه الاقطار النائية وقد آن لفرنسا الآن ان تسترد اعتبارها فيها))”.