نوري جاسم
في زمن تتقاذفه الماديات وتطغى فيه الضوضاء، ينبثق من أعماق الوجود صوتٌ هادئ، لا يُسمع بالأذن، بل يُحَسّ بالقلب، إنه صوت التصوف والعرفان الكسنزاني، النابع من سكينة الروح، الممتد من نور المحبة، العابر للمذاهب والحدود، والسائر في درب الإنسان نحو الله، وليس التصوف الكسنزاني دعوة للانعزال، ولا هو هروب من الحياة، بل هو عودة إلى الحقيقة، إلى أصل الإنسان، إلى فطرته الأولى حيث الصفاء والصدق والرحمة، إنه طريق سالكه لا يُقاس بما يحفظ من كتب، ولا بما يرتدي من لباس، بل بما يختزنه قلبه من صدق، وما تعكسه روحه من نور، وما تتجلى فيه حياته من أخلاق، وفي مدرسة الكسنزان لا يُنظر إلى الناس بأسمائهم، بل بنواياهم، ولا يُسأل المرء عن مذهبه أو قوميته أو لونه، بل عن قلبه هل هو حي؟ هل يحب؟ هل يسعى نحو الله؟ الطريق الكسنزاني يعلّمك أن تكون إنسانًا قبل كل شيء، أن تكون مُحبًا في زمن الكراهية، نقيًا في زمن التلوث، طاهر القلب في زمن الغش، متصلًا بالله دون واسطة تعيق، ولا رغبة تعلّقك بالدنيا، وهو طريق يجعلك ترى الله في كل شيء، وتشم عبيره في كل موقف، وتسمع نداءه في داخلك، في صمتك، في بكائك، في خفوتك، في قوتك، وأتباع هذا الطريق لا يحملون السلاح، بل يحملون الدعاء والخير للناس، ولا يدخلون الحروب، بل يطفئونها، ولا يدّعون الأفضلية، بل يتواضعون، يطلبون الحق من كل موضع، ويقبلون الحكمة ولو جاءت من أفواه البسطاء، وشيخهم ليس ملكًا عليهم، بل هو مرشد لأرواحهم، مرآةً لنور الله فيهم، قائدًا لا إلى ذاته، بل إلى طريق الله وحده، وإنهم لا يطلبون الكرامات الخارقة، بل يعتبرون أعظم كرامة أن تستقيم، أن تصدق، أن تعيش لله ولأجل الله، والكرامة عندهم أن تصبر على الألم دون شكوى، وأن تعفو وأنت قادر، وأن تحب دون انتظار مقابل، ولقد اجتمعت في هذه الطريقة الكرامات الروحية والمقامات القلبية، وامتزج فيها النسب النبوي الشريف المأذون بروح العصر، فانطلقت من زوايا العراق إلى العالم، تنادي: تعالوا إلى المحبة، تعالوا إلى السلام، تعالوا إلى الله، التصوف الكسنزاني اليوم ليس في زاوية منعزلة، بل في قلب العالم، في وجع الناس، في جراح المجتمعات، في عطش الأرواح إلى المعنى، وهو صوت يعلو فوق الضجيج، يقول للعالم لا خلاص إلا بالمحبة، لا طمأنينة إلا بالله، لا نور إلا بالتسليم، كن كسنزانيًا، لا لأنك وُلدت كذلك، بل لأنك اخترت أن تحيا بهذا النور، أن تكون عبدًا لله قبل أن تكون شيئًا في الدنيا، كن كسنزانيًا في روحك، في لُطفك، في سماحتك، في صبرك، في دمعتك حين تذكر الله، وفي ابتسامتك حين ترى فقيرًا أو يتيمًا، والتصوف الكسنزاني ليس مذهبًا فكريًا باردًا، بل نار شوق ولهفة، وماء طُهر وسكينة، وهو أن تسير في الحياة ويدك في يد شيخٍك الصادق، وعينك على الله، وقلبك ممتلئ بالحب لكل ما خلق الله. وهو أن تخلع عنك الكراهية، وأن تلبس لباس غلحب والنور، وأن تقول لكل من حولك سلام عليكم، أنا من أتباع المحبة، من تلاميذ العرفان، من أبناء الطريق الكسنزاني، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما …