حين يهتف الجميع… ينتصر الفريق!

د. إبراهيم أحمد سمو

في عالم الرياضة، لا تكفي المهارة الفردية، ولا تكتيكات المدرب، ولا حتى اللياقة البدنية لتحقيق الانتصارات. هناك عامل آخر، لا يُقاس بالأرقام، لكنه يصنع الفارق الحقيقي: الجمهور. ففي كل مباراة، لا يقاتل الفريق وحده، بل تقف خلفه كتلة من المشاعر، طاقة من التشجيع، ونبض من الانتماء. وعندما تتوحد القلوب خلف الفريق، يتحول الحلم إلى واقع، والانتصار إلى نتيجة حتمية.

خذوا على سبيل المثال ما حدث لنادي دهوك قبل شهر ونصف، لم يكن مجرد فوز رياضي، بل ملحمة جماهيرية مكتملة الأركان. اجتمعت الأصوات من كل صوب، وتوحدت الهمم ليرتقي اسم النادي عاليًا. تحوّل التشجيع من فعل رياضي عابر إلى حالة وطنية عامة. لم تكن المسألة مجرد مباراة، بل كانت إعلان انتماء، وتجسيدًا لقدرتنا على تحقيق المستحيل حين نتوحد.

في تلك الأيام، لم تكفِ الملاعب لاحتواء الحشود، ولا الشاشات العملاقة في الساحات، ولا حتى المقاهي والمنازل. الناس توافدوا من كل مكان. امتلأت البيوت بالحماس، وتقدّم الأطفال صفوف المشجعين، وصدحت أصوات النساء قبل الرجال. حتى كبار السن والشيوخ وأئمة المساجد، انخرطوا جميعًا في هذا الكرنفال الجماهيري المذهل. كانت لحظة استثنائية، امتزج فيها الحس الوطني بالحلم الرياضي، فكان النجاح نتيجة طبيعية لذلك الالتفاف الشعبي العظيم.

لكن، للأسف، ما أسرع تغيُّر الصورة.

الفريق هو ذاته، لكن الحماسة خبت، والهتافات خفتت. لم يعد أحد يتحدث عن “دهوك”، وكأن الفريق الذي رفع كأس أندية الخليج لم يكن هنا يومًا. توقفت الأهازيج، غابت الأعلام، واختفت الجموع. خلت المقاهي، وانطفأت الشاشات، وانشغل الأطفال بألعاب الهواتف بدل الهتاف. حتى المنازل فقدت نكهة الإثارة، والأحياء خلت من صدى التشجيع.

وهنا يبرز السؤال المؤلم:
أين ذهب ذلك الجمهور الكبير؟
أين الإعلام الذي ملأ الشاشات والتقارير؟
أين الطاقات التي ملأت الشوارع بهتاف “دهوك”؟

هل كانت لحظة عابرة؟ أم أننا لا نُجيد الاستمرار حين يحتاجنا الفريق حقًا؟

ما حدث يُعبّر عن ظاهرة مؤلمة: نحن بارعون في الاحتفال عند الفوز، لكننا نتنصّل عند أول تراجع. نغمر الفريق بالهتافات عند الصعود، ونتجاهله عند أول هبوط. وكأننا لا نشجع الفريق، بل نشجع النتيجة!

لكن الحقيقة هي أن الفريق بحاجة إلى جمهوره أكثر في لحظات الانكسار. فالهزيمة ليست نهاية الطريق، بل محطة للتعلم. اللاعب يحتاج دعم الجمهور ليستعيد ثقته، والمدرب يحتاج صبرًا ليعيد البناء. أما عندما يصمت الجميع، ويغيب الدعم، يصبح التراجع محتومًا، ويشعر الفريق أنه يقاتل وحده في ساحة خالية من الحب والانتماء.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود قلة وفية من الجماهير، أولئك الذين لم يتزحزحوا عن دعمهم للنادي مهما كانت النتائج. جمهور يعرف معنى الانتماء، لا يربط حبه بالفوز فقط، بل بالإخلاص للتاريخ والهوية. هم من أبقوا الروح حيّة، وأكدوا أن “دهوك” ليس فريقًا موسميًا، بل جزء من هوية رياضية ينبغي أن تُصان.

لكن هذه القلة لا تكفي وحدها لحمل الفريق. إذا لم يتجدد الحماس الجماهيري، وإذا لم يَعد الإعلام شريكًا في المسيرة، وإذا لم يشعر اللاعبون أن خلفهم شعبًا يهتف ويؤمن بهم، فلن يستطيع النادي مواصلة الصعود.

نحن جميعًا مسؤولون. إعادة الفريق إلى الواجهة لا تأتي بخطط المدرب فقط، بل بهتاف في المدرجات، ومشاركة على منصات التواصل، وحديث في المقاهي، وفرحة في البيوت. النصر لا يُولد في العزلة، بل يُصنع في حضن الجماهير.

السؤال اليوم لم يعد “أين ذهب الجمهور؟”، بل:
هل قدمنا ما يكفي ليشعر الفريق أن هناك من يقف خلفه؟
هل ما زلنا نؤمن أن التشجيع مسؤولية وطنية لا نزوة عابرة؟
وهل نملك الشجاعة لنعترف أن الانتصارات تبنى على مسار طويل من الوفاء والدعم والصبر؟

نادي “دهوك” ما زال كما هو. لم يتغيّر في جوهره شيء. الذي تغيّر هو مستوى الالتفاف الجماهيري، وتفاعل الإعلام، ومقدار الحماسة الشعبية. والنتيجة: النادي في وادٍ، والجمهور في وادٍ آخر.

لذا، إن كنا نحلم برؤية رايات “دهوك” ترفرف مجددًا في سماء البطولات، فعلينا أن نعود جمهورًا فاعلًا، واعيًا، ثابتًا. علينا أن نؤمن أن صوتنا في المدرجات لا يقل أهمية عن هدف في الشباك، وأن اليد التي ترفع علم الفريق توازي أقدام اللاعبين في المعركة.

لنعد إلى التشجيع، لا كفعل عابر، بل كرسالة انتماء.
ولنجعل من كل مباراة فرصة لنؤكد أن الفرق لا تفوز وحدها، بل بجمهور يقاتل معها في كل لحظة.
حينها فقط… سنهتف وننتصر، لا مرة واحدة، بل في كل مرة.

قد يعجبك ايضا