د. دژوار سندی
المقدمة: الفيدرالية المشوّهة والانتهاك المنظّم:
منذ إقرار الدستور العراقي لعام 2005، الذي أرسى نظاماً اتحادياً يعترف بصلاحيات الأقاليم، واجه إقليم كردستان تمييزاً ممنهجاً من قبل الحكومة الاتحادية، لا سيما في الجانب المالي. فبدلاً من أن يكون الدستور ضامناً للعدالة والشراكة، تحوّل إلى أداة لتبرير التمييز السياسي تحت غطاء المركزية المفرطة. وأبرز مثال على ذلك، أنَّ وزارة المالية الاتحادية، بتوجيه من النخبة الحاكمة في بغداد، تمارس انتهاكات دستورية صارخة ضد الإقليم، مما يُهدّد الأسس الفيدرالية للدولة ويُعمّق أزمات الشراكة الوطنية.
أولاً: انتهاك مبدأ الفيدرالية وصلاحيات الأقاليم:
تنص المادة (1) من الدستور على أن العراق دولة اتحادية. بينما تُؤكّد المادة (121) على حق الأقاليم في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بما في ذلك إدارة الشؤون المالية. ومع ذلك، تتعامل وزارة المالية مع إقليم كردستان ككيان تابع، لا كشريك دستوري، عبر:
– فرض رقابة مالية غير قانونية على موازنة الإقليم، رغم عدم النص على ذلك دستورياً.
– التدخل في الصلاحيات التنفيذية للإقليم، مثل تحديد آليات صرف الرواتب، وهو ما يناقض المادة (115) التي تمنح الأقاليم الأولوية في حال التعارض مع التشريعات الاتحادية.
هذه الممارسات تُكرّس “فيدرالية الزيف” التي ترفع شعار اللامركزية وتخفي استبداداً مركزياً.
ثانياً: مصادرة الثروات وتكريس التمييز المالي:
وفقاً للمادة (111)، فإن النفط والغاز ملك للشعب العراقي ككل، وتُوجب المادة (112/ثانياً) توزيع العائدات بعدالة بناءً على النسب السكانية. لكن وزارة المالية تنتهك هذه المواد عبر:
– الاحتجاز المتعمّد لحصة الإقليم، رغم وضوح نسبته السكانية (17% من الموازنة)، وتحويلها إلى أداة عقاب سياسي.
– ربط صرف الرواتب بتسليم النفط، وهو شرط غير دستوري، إذ لا يجوز تحويل حقوق المواطنين إلى رهينة سياسية.
هذا النهج يُشكّل انتهاكاً جسيماً لمبدأ العدالة التوزيعية ويُحوّل الدستور إلى حبر على ورق.
ثالثاً: تجاوز السلطة التشريعية وتفويض الدستور:
يختص مجلس النواب بموجب المادة (62) بالمصادقة على الموازنة، لكن وزارة المالية واللجنة المالية النيابية تتجاوزان هذه الصلاحية عبر:
– إدراج بنود تعسفية تفرض شروطاً غير قانونية على إقليم كردستان (مثل شروط “التسليم النفطي”).
– التلاعب بالتخصيصات المالية دون سند تشريعي، مما ينتهك مبدأ الفصل بين السلطات (المادة 47).
هذا التدخل يُظهر تحوّل السلطة التنفيذية إلى “برلمان موازٍ” يُشرّع عبر القرارات الإدارية.
رابعاً: انتهاك مبدأ المساواة وحقوق المواطنين:
تنص المادة (14) على المساواة بين العراقيين، لكن وزارة المالية تمارس تمييزاً صارخاً عبر:
– تأخير أو حجب رواتب موظفي الإقليم، بينما تُصرَف بانتظام في المحافظات الأخرى.
– استخدام الحقوق المالية كأداة عقاب جماعي، مما ينتهك المادة (16) الخاصة بتكافؤ الفرص.
هذه السياسة لا تُذلّ المواطن الكردي فحسب، بل تُفصِح عن عنصرية مالية مقنّعة بخطاب “الشرعية”.
خامساً: تقويض الهيئات الدستورية وإفشال الحلول التوافقية:
نصّ الدستور في المادة (105) على إنشاء هيئة لضمان حقوق الأقاليم، لكن الحكومة الاتحادية تعطّلت عن تفعيلها، كما أنها تتجاهل المادة (114) الخاصة بالتعاون بين الأقاليم والمركز. والأخطر هو:
– الالتفاف على الاتفاقات الموقّعة (مثل اتفاق 2023)، حيث تلتزم أربيل بتسليم النفط، بينما تُماطل بغداد في صرف الرواتب.
– الاستبداد المالي عبر فرض سياسات أحادية دون حوار، مما ينقض مبدأ الشراكة الوطنية.
الخاتمة: الفيدرالية أم الانفصال؟
الخروقات الدستورية لوزارة المالية ليست “أخطاء إدارية”، بل جزء من سياسة ممنهجة لتركيع الإقليم وإفراغ الفيدرالية من مضمونها. إذا استمر هذا النهج، فإن رسالته واضحة: إن الدستور العراقي لم يُكتب ليكون عقداً اجتماعياً، بل أداة لقمع الخصوصيات.
الحل يكمن في:
1. الالتزام الحرفي بالدستور، ووقف الابتزاز المالي.
2. تفعيل الهيئات الدستورية كضمانة لحقوق الأقاليم.
3. محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات عبر القضاء الاتحادي.
وإلا، فسيظل السؤال المشروع قائماً: هل هناك جدوى من بقاء إقليم كردستان في اتحادٍ يُنتهك يومياً دون رادع؟.