العمر الأخير… حين يرقص القلم على أوتار الثقة

د. ابراهيم احمد سمو

(( الحرية ليست شيئاً يمكن إعطاؤه، الحرية شيء تأخذه، ولا تكون حرًا إلا إذا كنت لا تدين بشيء لأحد. البير كامو ))

ثمة عبارة وقعت في نفسي وقعًا خاصًا، لدرجة أنني شعرت بأنها لا تُجسّد فقط رؤيتي في الحياة، بل ترسم ملامح طريقي بدقة لا تخطئها العين. عبارة حملت في طياتها معنى الاستقلال، والكبرياء النبيل، والقدرة على أن تحيا دون أن تكون مدينًا لأحد، ولا متطفلًا على أحد، ولا سببًا في أذى أو شر لأحد.

لقد نجحتُ، كما يخبرني داخلي، في أن أعيش حياة لا تقوم على المِنّة، ولا تتغذى على استجداء الفرص أو استغلال العلاقات. حياة حافظت فيها على جوهر الذات، دون أن تتحول إلى أداة في يد أحد، أو تُسخّر لإرضاء أحد. فالنفس، كما أؤمن، لم تُخلق لتؤذي، ولم تُمنح لتُستغل، بل لتكون امتدادًا للخير في حدود القدرة، ودعوة دائمة للسلام الداخلي والخارجي معًا.

الانتصار الحقيقي، بالنسبة لي، لا يُقاس بحجم المال، ولا بعدد الأتباع، ولا بما يصفق له الناس اليوم وينسونه غدًا. الانتصار الحقيقي أن تقف في لحظة من لحظات العمر، وتقول بثقة وهدوء: “هذا أنا”. وصلت إلى ما أنا عليه اليوم لا بمنّة من أحد، بل بثقة الآخرين بقدرتي، ودعمهم لي لا من باب الشفقة، بل من باب الإيمان بالجدارة. تلك الثقة التي لم تتحول في داخلي إلى غُرور، بل إلى زاد جديد في درب الاجتهاد، وعهد أخلاقي بعدم الانزلاق في أذية الآخرين أو التكبر عليهم.

لقد تعلمت مبكرًا أن الفكر وحده لا يكفي، وأن الكلمة وحدها لا تُثمر، إن لم يكن خلفها إنسان يؤمن بها، ويحترم معناها. كتبت كثيرًا، وتحدثت كثيرًا، لكنني لم أسمح لقلمي أن يرقص على جراح أحد، بل جعلته يرقص – إن رقص – على نغمة الإيجابيات، وعلى ضوء بعض النفوس النبيلة التي تمر علينا كالعطر، خفيفة الحضور، ثقيلة الأثر.

قلة هم أولئك الذين يستحقون أن يحتفي بهم قلمي، لكنهم موجودون، وما زالوا يمنحون للحياة نكهة مختلفة، وللزمن معنى يستحق أن يُسجل. ومع مرور الأعوام، ومع تعاقب الأحداث، بدأت أُدرك أن كل جملة نكتبها ليست مجرد تعبير عابر، بل مرآة لداخلنا، ولمدى تماسكنا، ولمنظومتنا الأخلاقية.

وإننا، في لحظات الكتابة، لا نكتب دائمًا لأنفسنا فقط، بل نكتب عن الآخرين، وللآخرين، وربما بدلًا عن الآخرين. نكتب حسب الحدث، وحسب العبارة، وحسب ما يلامس أرواحنا. نلتقط من المواقف ما يثير فينا التأمل، ونُترجم كل هذا في مقال قد يفرح البعض، وقد لا يعجب البعض الآخر. وهذا طبيعي، لأن الكلمة إن لم تهزّ، فلن تحيا.

نحن لسنا أبناء النقاء المطلق، ولا أوصياء على الحقيقة. نحن أبناء هذا العالم، المجبول بالخير والشر، النور والظلمة، الطهر والريبة. لكننا، في كل مرة نكتب فيها، نحاول أن نجنح إلى الخير، أن نلتحف النور، وأن نُقصي الشر عنا بقدر ما نستطيع. والحق يُقال، أنه حتى ونحن على مشارف الربع الأخير من العمر، لم نشعر يومًا أن الشر اقترب منا، أو أننا اقتربنا منه.

هذه العبارة التي أحببتها، وأشعلت في داخلي رغبة التأمل، تسجل لصالحها نقطة أخلاقية كبرى. وتُسجّل لصالح تجربتنا شوطًا طويلًا من الزمن، تعلمنا فيه أن نكتفي بالقليل، وأن نرضى بالكثير من المعنى، لا من المادة. وأن نمنح أنفسنا التحية،حتى وإن وجدنا من يصفّق لنا أو لم نجد من يصفق لنا، لا لغرور، بل اعترافًا بأننا كنا أوفياء لأنفسنا في زمن التلوّن.

نحن في نهاية المطاف، لا نُمثل سوى ذواتنا. نمثل القلم حين ينطق بالحكمة، ويمثلنا الفكر حين يُضيء الطريق لغيرنا. ومع ذلك، نبقى بشرًا عاديين، نخطئ ونُصيب، لكننا نملك تلك البركة الداخلية، التي جعلت منا “اثنين في قالب واحد”: الأول هو الإنسان الذي يسعى في الحياة، والثاني هو الضمير الذي يُراقبه ويهديه.

وإذا كان فينا من احترام وتقدير، فلأنه نشأ من داخلنا، لا مما قيل عنا أو كُتب. فالاحترام الحقيقي لا يُفرض، بل يُكتسب. والتقدير لا يُشترى، بل يُولد حين يرى الناس أنك لا تتلون، ولا تُبدل جلودك مع المواسم.

في هذا العمر، وبعد هذه المسافة، لا نحتاج لأن نُثبت شيئًا لأحد. نحتاج فقط أن نُواصل السير في الطريق الذي اخترناه لأنفسنا، الطريق الذي لم يُبنى على منّة، ولا يُهدد بالابتزاز، ولا يتأرجح بين موقفين. طريق الكلمة النقية، والفكر الحر، والقلم الذي لا يُساوم

قد يعجبك ايضا