عزالدين ملا
في لحظة مفصلية تشهد فيها الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط إعادة تشكّل غير مسبوقة، أعادت الولايات المتحدة الأمريكية تموضعها في المنطقة من بوابة الخليج، عبر زيارة مثيرة للرئيس دونالد ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات. لم تكن هذه الجولة مجرّد استعراض دبلوماسي، بل بدت كرسالة استراتيجية واضحة، واشنطن تعود بقوة إلى ساحة كانت قد تركتها لسنوات، وسوريا في قلب هذا التحول. فالفوضى التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد لم تترك فراغا فقط، بل أفرزت قيادة سياسية جديدة في دمشق ممثلة بأحمد الشرع، وهي شخصية توازن بين الواقعية والتوافق، وتفتح الباب أمام نمط جديد من العلاقة مع الخارج، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
ما يجري اليوم لا يمكن اختزاله في لقاءات أو تصريحات، بل هو نتاج تحول عميق في فهم واشنطن لطبيعة الصراع السوري، وأبعاده المتشابكة بين الأمن الإقليمي، والنفوذ الجيوسياسي، والفرص الاقتصادية الكامنة في إعادة الإعمار. فبعد سنوات من الانكفاء والتردد، تتحرك الإدارة الأمريكية وفق منطق جديد، لا عودة إلى شعارات إسقاط النظام من الخارج، ولا قبول ببقاء الساحة السورية تحت الهيمنة الروسية والإيرانية دون ردّ. بل هناك محاولة جادة لإعادة سوريا إلى المدار الغربي، ولكن بشروط الواقع الجديد الذي فرضته التطورات الداخلية، وتوازنات القوى الإقليمية والدولية.
كان اللقاء بين ترامب والشرع هو ذروة هذا التحرك، لحظة مفصلية طوت فعليا صفحة القطيعة، وفتحت الباب أمام ما يمكن وصفه بمرحلة الاحتواء الذكي للسلطة الجديدة. اللقاء لم يكن بروتوكوليا أو رمزيا فحسب، بل محملا بدلالات استراتيجية، واشنطن لم تعد متمسكة بمقولاتها الصلبة حول تغيير النظام من الخارج، بل باتت مستعدة للتعامل مع التغييرات التي فرضها الداخل السوري، بشرط أن تراعي هذه التغييرات مصالحها ومصالح حلفائها. بعبارة أخرى، انتقل الموقف الأمريكي من موقع الإنكار إلى موقع التوظيف، ما دامت السلطة الجديدة في دمشق ليست معادية بالضرورة، فلا مانع من فتح قنوات التعامل معها، بل وربما دعمها، إذا ما أثبتت أنها أكثر مرونة وأقل تهورا من سابقتها.
هذه البراغماتية الأمريكية الجديدة تعكس حقيقة أن واشنطن باتت تنظر إلى الصراع السوري لا كأزمة إنسانية أو قضية ديمقراطية، بل كملف جيواستراتيجي يتقاطع مع أمن الطاقة، واستقرار حلفائها في الخليج وتركيا، وتوازن القوى مع روسيا، فضلا عن البعد الاقتصادي الذي بدأ يفرض نفسه بقوة على قرارات السياسة الخارجية الأمريكية. فسوريا، رغم كل الدمار، ما تزال تملك موقعا جيوسياسيا يجعلها ركيزة لأي ترتيبات شرق أوسطية، ناهيك عن أن إعادة إعمارها تمثل سوقا ضخمة تتهيأ له كبريات الشركات العالمية، والتي لا يمكنها دخول هذا السوق دون غطاء سياسي غربي.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل أبعاد الصراع على النفوذ في سوريا، الذي لم يتوقف رغم سقوط الأسد. فبينما تسعى روسيا إلى تثبيت موطئ قدم دائم عبر قواعدها العسكرية وتحالفاتها الأمنية، وتحاول إيران المحافظة على شبكاتها الاقتصادية والعقائدية، تدخل الولايات المتحدة اليوم في محاولة لاستعادة بعض من نفوذها المفقود، لا بالصواريخ ولا بالجنود، بل بالدبلوماسية المرنة، ووعود إعادة الإعمار، ورفع تدريجي مدروس للعقوبات. هذه العودة الأمريكية لا تنفصل عن منافسة اقتصادية إقليمية شرسة، حيث تتسابق قوى الخليج وتركيا على العقود والمشاريع، فيما تنتظر الشركات الغربية ضمانات سياسية قبل أن تخاطر برأس المال في بيئة غير مستقرة.
هنا، تبدو تركيا أكثر من مجرد شريك عرضي في المعادلة. فأنقرة، التي راهنت طويلا على سقوط الأسد لصالح حلفاء من المعارضة، تجد نفسها اليوم أمام معادلة جديدة، الأسد سقط، لكن البديل ليس حليفا بالضرورة. الشرع شخصية تحظى بتفاهم مع الكورد، وتحمل نزعة استقلالية قد لا تتماشى بالكامل مع طموحات أنقرة التوسعية أو مخاوفها الأمنية. ومع ذلك، تدرك تركيا أن الخروج من اللعبة سيكون مكلفا، وأن وجودها في إدلب والشمال السوري لا يمكن ضمانه دون تفاهمات مع واشنطن، وربما لاحقا مع دمشق نفسها. لذلك، فإن انخراطها في الحراك الأمريكي ليس مجرد قبول، بل محاولة ذكية لإعادة تدوير موقعها كفاعل محوري لا يمكن تجاوزه، خاصة في ملف اللاجئين، ومكافحة الإرهاب، وتأمين الحدود.
لكن السياسة وحدها لا تكفي لبناء سوريا جديدة. فالبنية الاقتصادية مدمرة، والمؤسسات منهكة، والثقة بين الدولة والمجتمع في أدنى مستوياتها. من هنا، يُفهم رفع العقوبات الأمريكية – وإن كان تدريجيا – بوصفه اختبارا مبكرا للسلطة الجديدة، هل تستطيع إدارة الشرع أن تستخدم هذا الانفتاح في تعزيز التنمية، وخلق فرص العمل، وتوفير الخدمات؟ أم ستكرر نمط الهيمنة والفساد الذي ميز عقود الأسد؟ على هذا السؤال ستتحدد مآلات المرحلة المقبلة، داخليا ودوليا.
الفرصة الاقتصادية القائمة اليوم ليست مجرد هبة أمريكية، بل ورقة تفاوض قوية. الولايات المتحدة، ومن خلفها الغرب، تقول بوضوح، نحن مستعدون للتعامل، لكن بشروط. وأهم هذه الشروط هو بناء نظام سياسي تشاركي، يضمن تمثيلا حقيقيا للمجتمع السوري بكل مكوناته، ويمنع عودة الاستبداد. وهنا تبرز أهمية العقد الاجتماعي الجديد الذي على الشرع وفريقه أن يطرحوه، ليس فقط لاسترضاء الخارج، بل لبناء شرعية داخلية قادرة على الصمود في وجه التحديات.
في المحصلة، نحن أمام لحظة سياسية فارقة، تتقاطع فيها الجغرافيا مع المصالح، والدبلوماسية مع الاقتصاد، والأمل مع الحذر. الولايات المتحدة تعود إلى المشهد السوري، ليس بدافع الأخلاق أو الالتزامات الحقوقية، بل بدافع المصلحة الصافية، وفهم دقيق للمتغيرات. والسلطة السورية الجديدة، إن كانت حقا تختلف عن سابقتها، فعليها أن تلتقط هذه اللحظة، وتوظيفها في إعادة بناء وطن لا على أنقاض الخصوم، بل عبر شراكة وطنية شاملة.
هذه ليست لحظة شعارات، بل لحظة صراع بين مشروعين، مشروع يسعى لتدوير الاستبداد بوجه جديد، ومشروع آخر يحاول، ولو بحذر، أن يبني دولة على أسس مختلفة. الخيار لا يزال مفتوحا، لكنه لن يبقى كذلك طويلا. فإما أن تمضي سوريا نحو استقرار مشروط، تخلقه المعادلات الجديدة وتدعمه مصالح الكبار، أو تعود سريعا إلى دوامة الفوضى، إذا ما فشل الداخل في فهم رسالة الخارج. وهذه المرة، سيكون الثمن مضاعفا، لأن العالم لن ينتظر كثيرا قبل أن يعيد رسم خرائطه وفق مصالحه، لا وفق آمال السوريين.