إبراهيم اليوسف
لا يُقاس الخراب بحجم الدمار، بل بمقدار ما يبتلعه من احتمالات لم تولد. الفن، هنا، ليس ترفاً، بل ضوءاً في سردابٍ أُغلق على الكرد قرناً ونيف. وفيما كنا ندور في فضاء أغاني الرعيل الأول، نلوك الحنين إلى من سبق، كان صوتٌ آخر يُولد في الظل، لا من فراغٍ، بل من هُوَّةٍ حفرتها حرب لم تُبقِ لنا غير أصداءها وخرائطها المفتوحة على النفي والوجع.
لم يُتح لنا أن نتابع ولادة الأصوات الجديدة، لأن الحرب، وهي تجرّنا من خاصرتنا، سرقتنا من أرواحنا قبل أن تسرقنا من بيوتنا. وكأن الزمن توقّف على الأغنية التي كبر معها الكردي في المعتقل المفتوح أو المغلق بإحكام، في مدرسةٍ بلا أبواب، أو في زنزانةٍ تجهل معناها، لكنها تحفظها غريزياً. لأن الحرب جعلتنا ننسى أن الفن لا يولد من رغدٍ، بل من جمرٍ يُخبَّأ تحت الجلد. وهكذا، عبر كل هذه السنوات، فُتح جرحٌ جديد، اسم صوته وصداه: جوان حسن.
الجبل بوصفه نصًا
أو الحنجرة والمنفى
أجل، ولد صوته هناك، في الحقل، تحت شجرةٍ لم تُقتلع بعد، في شقِّ جبلٍ سمع ألف مرة صدى “روجآفايي كردستان”. لم يكن ابن مؤسسة، فحسب، ولا صناعة موسيقية، ولا طفلاً مدللاً على شاشة، بل ابن عفرين، تلك التي اقتُلعت من أرضها كما تُقتلع خصلة شعر من رأس أمٍّ تهرّبت من القصف.
في آذار 2011، كنّا مشغولين بسقوط التمثال، بسقوط الجدران، بانفجار المدن فوق رؤوسنا، ولم ننتبه أن صرخةً جديدة تشقّ الطريق لا إلى “المجد الفني” بل إلى جبهةِ معنى، إلى مقامٍ شعبيٍّ خالٍ من التجميل. بعد محطة عيانية عرفها الكردي في 12 آذار، تلك اللحظة التي هزّت قامشلي، كوباني، عفرين، كل مكان وُجد فيه كرديّ يرفض أن يكون ظلًا في وطنٍ يعامل صوته كخطر، ولغته كجريمة، ووجوده كخطأ مطبعي في دفتر الدولة.
عندما اجتاح الغزاة- بمختلف هوياتهم ومسانديهم والمتواطئين معهم- عفرين، لم يُطرد الإنسان فقط، بل طُردت الأغنية أيضاً. خرج جوان من المدينة، كما خرج الزيت من جرح الشجر المتجذر، ليصل إلى مخيم الشهبا. لم يكن التهجير انتقالًا فيزيائياً فقط، بل خلعاً للنفس عن نفسها. لكن هناك، في العراء، وُلد الصوت مجدداً. لا كحنين، بل كإعلان. من العفرينيّ الذي أصبح لاجئاً في بلده، إلى الشاب الذي يحمل في حنجرته سيرة مدينة كاملة، خرجت أغنية التراب والجبل والاحتلال والتفاؤل في آنٍ معًا. بعد أن أصبحت عفرين عفرينين، واحدة تحت وطأة المحتل تقاومه وأدواته، وأخرى تتلظى بلهيب وألم التهجير وتخطط لطرد الغزاة العابرين، كي تصبح هذه المدينة أبرز عناوين انشغالات كل كردي أصيل أينما استأثرت به جغرافيا الوطن أو المهجر، بل لتنفض النار عن أيقونيتها وتستحم بالدم بعد أن كانت تستحم بماء الغيم وزيت أشجار الزيتون المقدس.
جوان، كما أكتشفه، متأخراً، لا يغني البتة، بل ينزف. هذه العبارة ليست مجازًا، بل وصفٌ دقيق لنبرة تتجاوز اللحن، تتجاوزه إلى ذروة شعورية تنتمي إلى الأرض أكثر مما تنتمي إلى الموسيقى. جوان لا يزيّن الجرح، بل يصرخ فيه، يفتحه ليبقى مفتوحًا، لأن الإغلاق يعني النسيان، والنسيان هو أقسى أشكال الهزيمة.
ولأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا على شكل خيانة، أعاد الاحتلال التركي لعفرين المشهد العثماني بلغة أخرى. لم تكن المسألة حماية حدود، بل منع ولادة كردستان حتى في الأحلام. فتركيا، التي ورثت نصف المساحة الكردية، ترفض أن ترى النصف الآخر يحاول الوقوف. تقطع الرأس حين ترى البذرة، وتستعين بمرتزقة لا يعرفون عفرين ولا يحلمون بها، فقط ينفذون، ينهبون، يقتلون، ويتركون المكان مفرغاً من روحه.
لكن الأغنية، كفعل مقاومة، لم تُخلَ من هذا المشهد. أغنية جوان ليست للعرض، بل للشارع الكردي. للبيوتات الكردية. ليست للتسلية، بل لفتح الذاكرة، للتمسك بالجذر الذي حاولت الآلة العسكرية أن تقتلعه. إن صوته، في زمن التهجير، يعيد تعريف الارتباط بالمكان. فليس الوطن مكاناً فقط، بل صوتًا يُعيد ترتيب الكينونة.
صوت الجبل: تمثلات التضاريس في الأغنية
حين تسمع جوان، فإن عليك ألا تبحث عن الإيقاع، بل انتبه إلى الارتجاف. هو لا يصنع أغنيةً لتُصفّق لها، بل ليتذكّر بها. هو تذكير دائم بأن منفيي اليوم هم من بنوا المعنى، وأن الحرب، مهما كانت طويلة، لا تقتل الفن بل تُعيده إلى مكانه الطبيعي: في وجه الطغاة.
الأغنية الكردية، كما يقدمها جوان، ليست مشتقة من الأغنية العربية أو الغربية، بل ابنة الأرض مباشرة، ابنة الألم المصفّى، ابنة القرى التي لا تُذكر في كتب الجغرافيا، لكنها تحضر في كل خفقة قلبٍ منفي. هو لا يحتاج إلى ترجمة، لأن الوجع الكردي لا يحتاج إلى وسيط. هو لغة قائمة بذاتها، تشبه خبز الأم، وتُخبَز في فرن الطوارئ، في الظلال، وتُوزع على الجياع.
هو التزام لا يحتاج إلى لافتة. سياسيّ لأنه يقول “لا”، وطنيّ لأنه لم يغنِّ لطرف، بل لشعب، قوميّ لأنه يتكلم من سلالة هوية أُريد لها أن تُنسى، إنسانيّ لأنه ينحاز إلى الضحية لا إلى الآلة. وفي كل هذا، لا يخطئ بوصلته. لا يتاجر بالمأساة، بل يضمّدها بصوتٍ يرتجف من شدته.
وها هو الآن، بين المخيم والحنجرة، بين الغياب والصدى، يقف حيث وقف الكرد دومًا: في مكانٍ لا يعترف بهم، لكنهم يعترفون به. يحمل صوته ويمضي. لا لأن في الطريق من يسمعه، بل لأن الطريق يحتاج أن يُسمَع هو أيضاً.
من الحجر إلى الحنجرة: بلاغة التضاريس
وإذا كان لا بدّ للفن من أن يُفكّك بالعتاد الأكاديمي، فإن جوان حسن سيظل شاهدًا على أن الأصوات التي خرجت من الجبل لا تنتظر تصفيق الصالات، بل تصعد كالأدلة في أرشيف الحقيقة. وحين يتحوّل التراب إلى مقامٍ، والغناء إلى جبهة، يصبح من المشروع أن يُكتب عن هذا الفن تحت عناوين من قبيل:
صوت الجبل والسهل: تمثلات التضاريس في الأغنية الثائرة. المقاومة، الأرض كأرشيف سردي، من الحجر إلى الحنجرة، حين تغني الأرض، المقام الجغرافي للمقاومة، الجبل بوصفه نصًا، الحنجرة والمنفى، التراب كذاكرة، من الصخور إلى الصدى، بلاغة الجغرافيا في الفن الكردي.
فهذه ليست مقترحات بحثية وحسب، بل مفاتيح لأبواب ظلت موصدة في وجه من لم يسمعوا الأصوات التي لا تُغنّى بل تُقاوِم.