محمد حسن الساعدي
يستعد العراق لإجراء انتخابات برلمانية جديدة وسط ظروف سياسية واقتصادية معقدة، وتراجع ملحوظ في ثقة المواطنين بالمؤسسات السياسية وبينما يُفترض أن تمثل الانتخابات فرصة لتصحيح المسار وبناء نظام ديمقراطي يعكس تطلعات الشعب، فإن ظاهرة فساد المال السياسي تهدد مجددًا بنسف شرعية هذه العملية وتحويلها إلى مجرد “تجديد شكلي” لنفس القوى التقليدية التي تسيطر على مفاصل الدولة منذ سنوات.
شهد العراق في الدورات الانتخابية السابقة العديد من الممارسات التي تشير إلى تغلغل المال الفاسد في العملية السياسية. وتتمثل أبرز مظاهره في:
• شراء الأصوات، خصوصًا في المناطق الفقيرة التي تعاني من نقص في الخدمات، حيث يستغل بعض المرشحين حاجة الناس لتقديم رشى نقدية أو سلال غذائية.
• تمويل حملات إعلامية ضخمة من مصادر غير معلومة، غالبًا مرتبطة بأحزاب أو فصائل مسلحة ذات نفوذ.
• إنفاق مبالغ خيالية على الإعلانات والدعاية الانتخابية دون أي رقابة أو محاسبة.
• استغلال مؤسسات الدولة في الترويج للمرشحين المدعومين من أحزاب حاكمة.
هذه الممارسات أدت في السنوات الماضية إلى إفراز برلمان ضعيف الإرادة الشعبية، يخضع لتوازنات المال والنفوذ أكثر مما يعكس صوت الناخبين، فلقد أظهر الشارع العراقي، خصوصًا منذ احتجاجات تشرين 2019، سخطًا واسعًا تجاه العملية الانتخابية وآلياتها المشوهة. فالكثير من العراقيين باتوا يرون أن الانتخابات لا تُحدث تغييرًا حقيقيًا، بل يتم التلاعب بها عبر المال والولاءات السياسية، مما أدى إلى، عزوف جماهيري متزايد عن التصويت،اتهامات متكررة للمفوضية العليا للانتخابات بعدم الشفافية،ضعف تمثيل القوى الجديدة والمستقلة بسبب قلة الموارد وصعوبة المنافسة أمام الأحزاب الغنية.
المجتمع الدولي، خاصة بعثات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، يراقب الانتخابات العراقية بدقة. وقد أصدرت بعثات المراقبة في دورات سابقة تقارير تشير إلى وجود مخالفات تتعلق باستخدام المال السياسي وتأثير الفصائل المسلحة على إرادة الناخبين، وهذا ما يضع العراق أمام اختبار كبير لصورته أمام العالم، فاستمرار فساد المال السياسي يقوّض مصداقية العملية الديمقراطية ويؤثر على علاقاته الخارجية، بما في ذلك ثقة المستثمرين الدوليين في استقرار البلد،واستمرار الدعم الدولي المشروط بالإصلاحات، بالإضافة تعامل دبلوماسي أكثر تحفظًا مع حكومة يُنظر إليها على أنها نتاج لعملية انتخابية فاسدة.
بالرغم من التحديات، ما زالت الانتخابات القادمة تمثل فرصة لإصلاح حقيقي، إذا ما تم اتخاذ إجراءات جدية تشمل:
1. تشديد الرقابة على تمويل الحملات الانتخابية، وإلزام جميع المرشحين بالكشف عن مصادر تمويلهم.
2. محاسبة قانونية واضحة لكل من يثبت تورطه في شراء الأصوات أو تلقي أموال غير شرعية.
3. دعم القوائم المستقلة والشبابية لضمان تمثيل أوسع.
4. تمكين المفوضية العليا للانتخابات من العمل باستقلالية تامة.
5. تفعيل دور الإعلام والمجتمع المدني في كشف الفساد الانتخابي وتوعية الناخبين.
الانتخابات البرلمانية القادمة في العراق ليست مجرد حدث سياسي دوري، بل اختبار حقيقي لإرادة التغيير. فإما أن تكون محطة لاستعادة ثقة الشعب وبناء دولة القانون، أو أن تتحول إلى جولة جديدة من إعادة إنتاج الفساد تحت غطاء صناديق الاقتراع.
إن محاربة المال السياسي ليست مهمة المفوضية وحدها، بل مسؤولية جماعية تشمل الدولة والمجتمع المدني والإعلام والناخب نفسه والذي ينبغي أن يضع معايير الاختيار بعيداً عن الانتماء الحزبي والسياسي لان مستقبل البلاد والعباد مرهون بهذا الاختيار والذي بالتأكيد سيرتبط بمستقبل العراق وعلاقاته الخارجية ومصالحه.