د. دژوار سندی
إن جوهر العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد يفترض أن يكون قائمًا على أساس الشراكة الدستورية والتكامل السياسي، لا على التبعية والهيمنة المركزية. إلا أن التطورات السياسية الأخيرة، وعلى وجه الخصوص غياب التوافق بين الأحزاب الكردية الرئيسية، وفّرت لبغداد نافذة لتقويض مكتسبات الإقليم، والتعدي على حقوقه الدستورية والمالية، وفي طليعتها رواتب موظفي الإقليم، ما يُعد خرقًا صريحًا للمواد الدستورية والاتفاقات المالية والسياسية التي تأسست عليها علاقة الإقليم بالدولة العراقية بعد 2003.
أولاً: الإطار الدستوري لحقوق إقليم كردستان:
يستند إقليم كردستان في مطالبه المالية إلى مواد دستورية واضحة، لا سيما المادة (121) التي تضمن للإقليم ممارسة سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية، والمادة (112) التي تؤطر آليات توزيع الثروات الطبيعية بما يحقق العدالة بين أبناء الشعب العراقي.
رغم ذلك، تتعامل بغداد مع هذه المواد بانتقائية مريبة، حيث تُفسَّر النصوص وفقًا للأهواء السياسية، وتتجاهل تمامًا مبدأ “التوازن والشراكة”.
ثانيًا: الانقسام السياسي الكردي كعامل مُسهّل لتهميش الحقوق:
لا يمكن إنكار أن الأحزاب الكردية، بتحولها من جبهة موحدة إلى كيانات سياسية متصارعة، قد أضعفت الموقف الكردي في بغداد. فبعد أن كانت حكومة الإقليم تتحدث بصوت واحد، باتت منقسمة، ما سهّل على الحكومة الاتحادية استغلال هذا التصدع للامتناع عن صرف المخصصات المالية أو لفرض شروط مركزية على حكومة الإقليم، متذرعة تارة بانعدام الشفافية، وتارة بالخلافات الداخلية.
إن غياب جبهة كردية موحدة أتاح لبغداد فرض نوع من “الوصاية المالية” على الإقليم، وصلت إلى حد التدخل المباشر في كيفية صرف رواتب موظفي كردستان، بل وتحديد الأعداد المستحقة وقيمة الرواتب المستحقة، متجاهلة أن حكومة الإقليم ليست مديرية تابعة لوزارة المالية العراقية، بل كيان دستوري له شرعيته التنفيذية.
ثالثًا: الموظف الكردي كضحية للصراع السياسي:
إن ما يُعد خرقًا قانونيًا ودستوريًا، يتحوّل في الواقع إلى مأساة إنسانية يومية يعيشها المواطن الكردي، خصوصًا الموظف الذي يجد نفسه محرومًا من راتبه لأشهر طويلة. في كل مرة يُستخدم هذا الموظف كورقة ضغط سياسية في مفاوضات لا شأن له بها.
لقد تحوّلت الرواتب من حق دستوري إلى أداة مساومة سياسية، تُمنح حينًا وتُمنع حينًا آخر، وفق مزاج الحكومة الاتحادية ومصالحها السياسية، في ظل ضعف الرد الكردي الموحد، ما يعد استهانة بكرامة شعب بأكمله، وبالأسس الدستورية التي يفترض أنها تحكم العلاقة بين المركز والإقليم.
رابعًا: الآثار القانونية والسياسية:
من الناحية القانونية، إن تجميد أو حجب المستحقات المالية للإقليم دون الاستناد على نص قانوني يُعد خرقًا صريحًا للدستور العراقي. كما أن التدخل في إدارة الملفات المالية الداخلية للإقليم يشكل تعديًا على مبدأ اللامركزية السياسية والإدارية، ويتنافى مع الاتفاقات المبرمة بين الحكومتين الاتحادية واقليم كوردستان، وآخرها الاتفاقيات المتعلقة بتسليم النفط مقابل الرواتب.
أما من الناحية السياسية، فإن هذا النهج المركزي يُعيد البلاد إلى ما قبل 2003، حين كانت الحكومات المركزية تنتهج سياسة تعسفية تجاه الكرد، مستخدمة الأدوات الاقتصادية كسلاح عقابي، في تكرار واضح لنهج الإقصاء والتهميش الذي ظن الجميع أنه انتهى مع زوال النظام الديكتاتوري.
خاتمة: دعوة للوحدة والمقاومة السياسية:
١. التضامن السياسي الداخلي: ضرورة بناء تحالفٍ كرديٍ موحدٍ يعيد توحيد الموقف التفاوضي، ويرفع سقف المطالب الدستورية في بغداد.
٢. التدويل القانوني: يمكن لمؤسسات الإقليم تقديم شكاوى إلى منظمات دولية (مثل الأمم المتحدة) لتوثيق الانتهاكات المالية كشكلٍ من أشكال العقاب الجماعي.
٣. تعزيز الاستقلال المالي: عبر تفعيل آليات الإيرادات المحلية (كالضرائب والاستثمار)، لتقليل الاعتماد على التمويل المركزي.
إن الحفاظ على الحقوق المالية لشعب كردستان ليس قضية فنية أو حسابية، بل قضية سيادة وكرامة وهوية، لا يجوز التنازل عنها أو السكوت على انتهاكها، أياً كانت المبررات.