جليل إبراهيم المندلاوي
يُقال “وأرجوك عزيزي القارئ لا تضحك” إن العراق يملك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، ويُقال أيضا إن النفط يُدار بموجب اتفاقات دستورية واضحة، والحقيقة؟ أن النفط هنا ليس مورداً اقتصادياً، بل طلسم أسود يتحرك تحت طاولة السياسة كالأشباح، لا أحد يعرف كم نُنتج، كم نُصدر، كم نأكل، وكم نُخزّن كرشوة سياسية ليوم عصيب، ففي بلاد تُدار فيها الموازنات كما تُدار مباريات كرة القدم، وتُحسب فيها حصص الأقاليم كما تُحسب النقاط في لعبة شد الحبل، نجد أنفسنا مجددا أمام ثلاثية الخلاف الذهبية بين أربيل وبغداد: النفط، الرواتب، والدستور، ثلاثية درامية، تصلح لمسلسل رمضاني بعنوان “المال السايب يعلّم الحكومات الشطارة”، ليصبح النفط في العراق ليس فقط مصدر دخل، بل مصدر “تندرية سياسية”، كلما اشتد النقاش بين أربيل وبغداد، يتم سحب ورقة النفط وكأنها مفتاح نهاية اللعبة في “مونوبولي”، أربيل تقول: “هاكم نفطنا، وأعطونا حقوقنا”، وبغداد ترد: “أين الفاتورة؟ وأين البراميل؟ وأين الدستور؟”، وكأنها أم غاضبة تبحث عن فردة الجورب المفقودة.. ففي كل مرة تقترب فيها أربيل وبغداد من التفاهم، تخرج وزارة المالية لتُعلن: “ممتاز.. بس باقي ختم مدير المدرسة وثلاثة شهود وعدّاد غاز”، لأن البيروقراطية العراقية لا تؤمن بالنوايا، بل تؤمن بأن البرميل بريء حتى تثبت إدانته، حتى إن الموظف الكوردي، مثل كثير من العراقيين، لم يعد يفهم إن كانت وزارة المالية مؤسسة سيادية، أم تطبيقا على الهاتف: “مرحباً، لقد تطابقنا مع راتبك هذا الشهر، يرجى المحاولة مرة أخرى بعد ثلاثين يوما، أو ثلاثين تصريحا!”
ففي هذه البلاد التي تُدار فيها الثروات بتطبيق “منو مزاجه اليوم؟”، تظهر شخصية بارزة أصبحت حديث الشارع، والبرلمان، والموظفين، وحتى أحلام العاطلين: وزيرة المالية الاتحادية، السيدة طيف سامي، نعم، الاسم وحده يحمل رمزية، فـ”طيف” في اللغة العربية هو كائن يظهر ويختفي بلا موعد، ويبدو أن الوزيرة قرّرت أن تجسّد المعنى حرفياً، لكن ليس في السماء بل في جداول الرواتب، فحين تُسأل السيدة الوزيرة عن تأخير رواتب موظفي الإقليم، تخرج بتصريح مهيب، يُكتب عادة بخط عريض، ويُقرأ بصوت رخيم في نشرة الأخبار، تقول فيه: “لقد أرسلنا كل شيء”؟
لكن كما هو معروف، في العراق “كل شيء” تعني أي شيء، عدا الشيء المطلوب فعلياً، فالسيدة الوزيرة تعلم جيدا بوجود مدارس اقتصادية كثيرة: الكينزية، النيوليبرالية، الاشتراكية، لكنها جاءت بمدرسة جديدة كلياً أطلقت عليها اسم: الاقتصاد التأمّلي، في هذه المدرسة: لا تحتاج إلى صرف الرواتب في موعدها، بل إلى الإيمان بأنها ستأتي، ولا ضرورة لعرض الجداول المالية، بل يكفي أن تقول: “ثقوا بي”، لا مشكلة في أن يغلي الشارع الكوردستاني، فأزمة الرواتب؟ ما هي إلا تمرين وطني للصبر”، وربما علينا أن نكون أكثر تفهماً، فربما السيدة الوزيرة لا ترى تأخير الرواتب أزمة، بل تعتبره “برنامج تطوير ذاتي”، يشجع على: التأمل الجماعي على طريقة: “اللهم ارزقنا راتبا من عندك، فإن المالية مشغولة بالتخطيط المستقبلي.”
دعونا لا نُشكك في نوايا الوزيرة، فهي “على الأرجح” تعمل بجد، وتواجه تحديات ضخمة، لكننا فقط نتساءل، بكل احترام: كيف وصلت الموازنة إلى الإقليم على الورق، لكن لم تصل إلى الجيوب؟
أربعة أشهر فقط تم دفعها لموظفي الإقليم هذا العام، بينما وزارة المالية تقول بكل ثقة ووقار: “استلمتم حصّتكم كاملة”، كأنما نحن في فيلم من إنتاج نتفليكس: وزارة المالية تعيش في بُعد زمني مختلف، حيث الرواتب تصرف في الخيال، وتحسب على الورق، وتتبخر في الهواء، وأحد الموظفين في كوردستان قال وهو ينظر للسماء: “يا رب، ارزقنا راتبا لا يُعلق، ووزيرة لا تستخدم الحاسبة بالنية”.
فالمواطن الكوردستاني، ابن العراق، صاحب الرقم البطاقة الوطنية العراقية، والدستور العراقي، ما زال يبحث عن راتبه الضائع كأنه يبحث عن آثار سومرية تحت بيته، تتصرّف المالية الاتحادية وكأن الرواتب هدايا شخصية تُمنح بالذوق، لا حقوق تُصرف بالقانون.
حيث أصبحت رواتب موظفي إقليم كوردستان، هواية موسمية تمارسها الحكومة الاتحادية: “هذا الشهر، لن نصرف الرواتب، لأسباب فنية”، الأسباب الفنية؟ نعم، لأن الرواتب في العراق تحتاج إلى تأشيرة، وتصريح أمني، وربما تحليل DNA للتأكد أنها ليست مدسوسة من جهات معادية.. أما الدستور، فحدّث ولا حرج، هذا الكتاب الذي يُرفع في كل مناسبة، ولا يُفتح أبدا، يُستشهد به كما يُستشهد بالحكم والأمثال، وكل طرف يقرأه كما يقرأ الفنجان، الكل يدّعي احترامه، ويطالب بتطبيقه، لكنه يطبّقه مثلما نطبق تعليمات “مكعبات ليغو”: نركب ما يعجبنا، ونرمي الباقي تحت السرير.
النواب الكورد بدورهم قدموا مذكرة احتجاج إلى رئيس الوزراء الاتحادي، واستشهدوا بالمحكمة الاتحادية، التي قالت إن الرواتب يجب ألا تكون أداة سياسية.. جميل، لكن يبدو أن هناك نسخة غير مرئية من الدستور في بغداد تقول: “المادة صفر: يُؤخّر الراتب عند اللزوم، حسب المزاج الانتخابي”.
دعونا نكون واقعيين، الحل الوحيد هو حوار وطني جامع صادق، أو نكمل المسلسل المدبلج الذي يتصدره عنوان جديد كل شهر: “هل سيأتي الراتب في الحلقة القادمة؟ أم سيختفي البطل؟”، وحتى ذلك الحين، يبقى المواطن الكوردستاني يراقب نشرة الأخبار مثلما يراقب نشرة الطقس في تموز: لا مطر ولا راتب، بس حرارة سياسية فوق الخيال.
وطالما أن هناك انتخابات قادمة، ستُستخدم الرواتب كرصاصة ضغط، والنفط كعصا تفاوض، والدستور كورقة تواليت سياسية: فليحيا العراق الموحد، في الأخبار فقط.. وليحفظ الله العراق، والدستور، وحسابات وزارة المالية من الخطأ الطباعي، أو الحذف المقصود، وليرقد الدستور بسلام، في المقابر الجماعية للفساد.