الرواتب مقابل الواردات … متى تكف بغداد عن معاقبة الكورد ؟؟!!

احمد الجبوري

في كل مرة يعود فيها الملف النفطي بين بغداد وأربيل إلى الواجهة تُفتح الجراح ذاتها التي لم تندمل منذ سنوات، وها نحن اليوم نشهد فصلاً جديداً من فصول الصراع المزمن على خلفية اتفاق حكومة إقليم كوردستان مع شركات أمريكية لاستثمار حقلي كورمور وميران الغازيين، وما تبعه من احتجاج رسمي من الحكومة الاتحادية بذريعة تجاوز الإقليم لصلاحياته الدستورية و”انتهاك” ما تسميه بغداد بـ”السيادة الوطنية”.

غير أن المشكلة لم تكن يوماً في الثروات، بل في الذهنية المركزية المتجذرة في مؤسسات الدولة العراقية والتي ترى في كوردستان كياناً مشكوكاً في نواياه، لا شريكاً في الوطن، فرغم مرور أكثر من عقد ونصف على إقرار الدستور العراقي، لا تزال تفسيرات المركز للنصوص الدستورية تتماهى مع مزاجه السياسي لا مع روحية التوافق والشراكة التي تأسس عليها النظام الاتحادي العراقي بعد 2003

 

ماهو الخلاف الدي يُتهم به الدستور …
جوهر الخلاف يكمن في المادة (112) من الدستور العراقي، التي تتيح للحكومة الاتحادية إدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية بالاشتراك مع حكومات الأقاليم، لكن دون توضيح كيفية هذا “الاشتراك”، ولا التفريق بين “الحقول الحالية” و”الحقول الجديدة”

وقد استغلت بغداد هذا الغموض لصالح مركزيتها، بينما ترى أربيل أن النص الدستوري يمنحها حق التعاقد المباشر مع الشركات العالمية لاستثمار الحقول غير المُنتجة عند كتابة الدستور او ما يسميه الكورد بـ “الحقول الجديدة”.

ومع صدور قرارات من المحكمة الاتحادية في السنوات الأخيرة، أُبطلت بموجبها عقود النفط التي ابرمها الإقليم، بدا واضحاً أن الدستور بات يُقرأ من منظور واحد وهو منظور بغداد التي لم تعد ترى في الحكم الاتحادي سوى تسمية فارغة، لا تترجم إلى ممارسات على الأرض.

 

الرواتب كسلاح سياسي
وفي واحدةٍ من أكثر صور الضغط السياسي فداحةً، عمدت الحكومات الاتحادية المتعاقبة إلى استخدام ملف الرواتب كسلاح لكسر الإرادة السياسية في كوردستان فالملايين من المواطنين العراقيين من الكورد باتوا يعيشون تحت وطأة أزمة مالية خانقة، ليس بسبب تقصيرهم أو تقاعسهم، بل لأن الحكومة الاتحادية قررت، بكل بساطة، أن الأموال “لا تُصرف” دون تسليم كامل للواردات للمركز استناداً لتفسيراته

هذه الممارسة، التي تخالف أبسط مبادئ العدالة الاجتماعية، حولت حقاً دستورياً إلى أداة ضغط سلبي، وزرعت في وجدان المواطن الكوردي شعوراً بالخذلان من الدولة العراقية التي يُفترض أنها تحتضن الجميع بعدالة ومساواة

 

الى إربيل والسليمانية … توحدوا من أجل كوردستان
وفي خضم هذا المشهد المضطرب، يبرز سؤال جوهري لا يمكن تجاوزه .. كيف يمكن لشعب كوردستان أن ينهض بثرواته، ويؤمّن لقمة عيشه، في ظل انقسام سياسي داخلي يعمّق الأزمات بدل أن يحلّها؟
إن حقول الغاز والنفط، مثل كورمور وميران، لن تتحول إلى مورد فعلي ما لم تتفق القوى السياسية الكوردية على رؤية مشتركة، تمكنهم من الوصول إلى نتائج مهمة وايجابية لصالح الشعب الكوردي.
إن أربيل لا تستطيع وحدها المضيّ في تصدير ثروات الإقليم دون تنسيق وتوافق حقيقي مع السليمانية، وهذه الحقيقة الميدانية تفرض واقعاً سياسياً لا مفر منه عنوانه “الشراكة من اجل كوردستان”.

 

دعوة لبغداد
بغداد اليوم … مدعوة لوقفة ضمير ومراجعة حقيقية لما وصلت إليه العلاقة مع إقليم كوردستان، وقد آن الأوان لحوار جديد، وشجاع وصريح، يعترف المساواة، ويؤسس لعقد سياسي جديد يضمن حقوق الشعب الكوردي، كما يضمن وحدة وسيادة العراق، فكل يوم يُترك فيه هذا النزاع مفتوحاً، هو خسارة لمواطن بريء، وتكريس لدولة لا تزال تنأى عن عدالتها المنشودة.

 

ختاماً …
إن ما يجري اليوم في العلاقة بين بغداد وأربيل ليس مجرد خلاف قانوني أو جدل حول تفسير مادة دستورية، بل هو انعكاس لفشلٍ سياسي أعمق، دفع ثمنه المواطن الكوردي أولاً وآخراً
لقد تحوّلت الثروات إلى أداة صراع، وتحول الدستور إلى وثيقة تُقرأ بانتقائية، وتحولت الرواتب إلى سلاحٍ للضغط لا وسيلة للعيش الكريم.

لقد آن الأوان لأن تصمت لغة الخلاف، وأن يُسمع صوت الناس… صوت المعلمين، والموظفين، والعمال، الذين لا يطلبون سوى أبسط حقوقهم “حياةً كريمة” في وطن لا يُجيد سوى تأجيل وعوده

قد يعجبك ايضا