إبراهيم اليوسف
حقيقة لم أكن قد سمعت باسمه، إلا بعد الحدث. قيل إن السبب انفجار عبوة غاز في بيته. اليوم كشف بعض الأصدقاء الثقاة عن الحقيقة.
هو الفنان جوان حسن، الذي دُفن في أرض عفرين، ولفظ أنفاسه قربها، في أحد مشافي حلب، بعد أن أُسعف إليه من حلب.
سوء الوضع الاقتصادي، من هُجّر من عفرين، مسؤولية جميعنا، والإدارة، باعتبار ملف عفرين مرتبطاً بها، وإن كان احتلال تركيا والفصائل السبب. الفقر يولّد مشاكل عائلية، لا سيما لشخصٍ يستأجر بيتين، بيتاً لأبيه، وآخر لأسرته. الفقر يتسبب بخلاف عائلي. يلوذ بالأصدقاء. بعض المقتدرين يساندونه، لكن مثل هذا السند آني، لا ديمومة له. لذلك ينشب الخلاف العائلي. كل خلاف عائلي وراءه سوء واقع الحال. سوء الوضع ينعكس على توادد وتفاهم البيت.
جوان، الذي سُلب منه منزله بعد احتلال عفرين 2018، وشُرّد إلى مخيم شهبا، غنّى لكردستان، وآثر بعد سقوط الأسد العيش في منطقة الجزيرة، لأن بيته لا يزال محتلاً. لكن ظروف الحياة أنهكته، متطلبات المعيشة، عدم وجود فرصة عمل، أي ضغط حياتي كان وراء دفعه للانتحار، بصبّ البنزين على نفسه. إنه قدّم موقفاً، ضاقت به أغنيته التي ردّدتها حنجرته، ابنة الجبل، توأم السهل، كي يوصل رسالة: كيف يكون هناك ٢٧ مليون دولار لدى حزب ب ك ك الذي يحكمنا أحد فروعه، ونصفه مأخوذ من كردستان سوريا، وأهلها مجوّعون، بكل أشكال الفسيفساء، إلا هؤلاء الفاسدون؟
لم يبع صوته. غنّى للجبل والسهل. غنّى لأرضه، وبيته، وأطفال وطنه، وتاريخه. لم يتكسّب، لم ينافق، لم يطلب حماية من أحد. ظلّ صوته مرفوعاً في وجه الظلم، والجوع، والاحتلال، والنفاق.
أشر أيضاً إلى أن الفصائل اقتلعت الأشجار، لتحتطب، ويُباع خشب الزيتون في الأسواق. شجرة الزيتون التي كانت تظلّل حلم الطفل الكردي، أُحرقت كما أُحرقت الجثث من قبلها.
لم يكن ما أقدم عليه جوان حسن فعلاً عادياً. ليس سهلاً، ولا يمكن لعقل أن يستوعب، أن يُضرم المرء النار في جسده. لا يفعلها إلا من بلغ به اليأس مداه، من لم يجد حتى في الصراخ وسيلة للتعبير. جسد الفنان لم يكن إلا رسالة أخيرة، كُتبت باللحم والدم والدخان، وُجّهت لأكثر من جهة: للفصائل التي سلبته البيت والأرض، للإدارة التي لم تنصف أبناء عفرين، للمنظمات التي التزمت الصمت، وللعالم الذي وقف متفرجاً على الحريق دون أن يرسل قطرة ماء.
في لحظة واحدة، أمسك عبوة البنزين، وسكبها على جسده النحيل، ثم أشعل النار، بينما كل ما فيه يقول: لقد اكتفيت. لم تكن النار برداً وسلاماً. كانت حارقة بدرجة عالية، حريقاً من الدرجة التي لا تعود فيها البشرة تُشبه البشرة، ولا الجسد يُشبه ما كان عليه. التف الناس حوله مذعورين، ونُقل على وجه السرعة إلى مشفى في حلب. لكن الاحتراق كان واسعاً، شاملاً، قاتلاً. بقي هناك ساعات فقط، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. حتى وهو يُسعف، كان وجهه ساكناً، لا يصرخ، كأن الوجع قد غادره، وتركه هيكلاً لرسالة من رماد.
صوته، ابن الجبل في لحظة أنينه، صوت أصالة “جايي كرمنج”، ينهض فيه ألم الكردي، عذاباته، حنينه، تفاؤله، انتظار الغد، حتى في أشد لحظات الظلمة. لم يكن يغني ليستعرض، بل كان صوته امتداداً لشقوق الأرض، لظل الزيتونة، لدمعة أمٍّ تنتظر عودة ابنها، لصوت جدٍّ يبتهل تحت ظل ناي. ذاك الصوت لم يخن الحقيقة، لم يخن الجوع، لم يهادن المحتل، لم يسكت عن فساد الإدارة. لذلك احترق.