إبراهيم اليوسف
مدخل أول:
ما قاله توماس باراك، السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، خلال لقائه بالرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع في إسطنبول، فتح نافذة جديدة على خطاب أميركي يحاول مراجعة التاريخ دون التورط في تغييره. تحدّث باراك عن سايكس-بيكو 1916، وعن التدخل الغربي، وعن التشويه الذي مارسته القوى الكبرى في الشرق الأوسط. غير أنه، رغم لهجته الناقدة، بدا وكأنه يرقّع ثوباً مهترئاً لا يريد تغييره، بل يكتفي بإقناع الآخرين بأنه لم يكن المسؤول عن تمزقه.
أن تقول لأحدهم: “لقد طعنتك بالأمس”، ثم تبتسم وتغادر دون أن تعالجه أو تعتذر… فهذه ليست يقظة ضمير، بل استعراضٌ أخلاقيٌ متأخّر! إنها جملة باردة في قاعة مليئة بالتصفيق، بلا ضماد، بلا محكمة، بلا قرار. وكأن العدالة يمكن أن تتحقق عبر المجاملات لا عبر المحاكم.
سايكس-بيكو كما رآها باراك: نصف الحقيقة لا يكفي
مائة عام مرّت على تقسيم كردستان بين أربع دول: تركيا، إيران، العراق، وسوريا. ومنذ اتفاقية سايكس-بيكو 1916، والخرائط تُخاط على مقاس مصالح الغرب، وشعوبٌ بأكملها تمزّق معها. وأبرز من تجسّدت فيه هذه المأساة: الكرد، الذين حُرموا من حقهم في تقرير مصيرهم، لا نتيجة خطأ عارض، بل كجزء من صفقة إمبريالية كاملة.
ما قاله باراك خلال اللقاء لم يكن خطوة نحو رسم عدالة جديدة، بل بدا أقرب إلى محاولة تسكين ضمير غربيٍ قلق، دون تقديم أي علاج. بدا وكأن الرجل يشارك في حفل وداع للضمير الأميركي، لا في يقظة أخلاقية جريئة.
اللا إصلاح أشد فتكاً من التدخل
أجل، أن تتحدث أمريكا اليوم عن “عدم التدخل”، بينما تترك الشعوب التي ساهمت في إيذائها تتخبط في الخراب، ليس حياداً، بل تخلٍ عن المسؤولية. فالسكوت الأخلاقي، هنا، أشد من التدخل ذاته. إنه يمنح القاتل عفواً مفتوحاً، ويترك الضحية دون حتى شهادة وفاة سياسية. هذا هو الشكل الجديد للامبالاة المغلّفة بخطاب دبلوماسي ناعم، يشرعن استمرار الظلم باسم “التوازن”.
بين الإقرار والخذلان
في اللقاء، أقرّ باراك بوجود مشكلة، لكنه لم يقدّم حلاً، لم يعتذر، لم يملك مفاتيح للخروج من الظلم. سلّط الضوء، لكنه لم يحمل مشعلاً. وحتى حديثه عن الخرائط، بدا أقرب إلى غمز مبطّن من خرائط ترامب، لا إعلاناً عن حقوق الشعوب. وكأن الرجل يرسم حدودًا بالكلام، لكنه لا يجرؤ على تغيير خط واحد من خطوط الظلم.
نحو خريطة أخلاقية جديدة؟
إن مراجعة سايكس-بيكو لا تعني فقط إدانة الاستعمار الأوروبي، بل تمثّل اختباراً أخلاقياً لأي دولة تدّعي دعم حقوق الإنسان. فهل يكفي أن تقول أمريكا: “لقد أخطأنا”، ثم تدير ظهرها؟ أليس المطلوب جبر الضرر؟ إصلاح الخراب؟ إنهاء الظلم؟ منح الحقوق؟ أم أن الأخلاق الدولية تُختزل في كلمات دبلوماسية وابتسامات باردة؟
الكرد: الغائبون الدائمون
هل يعني إنهاء التدخل إبقاء الكرد بلا وطن؟
في حديث باراك، لم يظهر الكرد كأمة لها حق، بل كمجرد ظل في ممرّات السياسة، كورقة تفاوضية، كضحية لا ملامح لها. فلا إدارة منحتهم حقهم، ولا دولة اعترفت بمظلوميتهم، ولا تحالف أنصفهم. فهل يكفي أن تقول أمريكا اليوم: سايكس-بيكو كان خطأ؟ ألا يجب أن تقول، بكل وضوح: كردستان حقّ، لا مجرد احتمال مؤجل؟
استبشار البعض… تشفٍّ لا دعم!
بعض القوى التي تعادي الحقوق الكردية قرأت حديث باراك على أنه تبرئة ناعمة لسايكس-بيكو. رأت فيه تجميلًا للواقع، لا إعلانًا لمرحلة جديدة. وفي الوقت الذي تحرص فيه أمريكا على ألا تغضب تركيا أو إيران أو أي شريك في قمع الكرد، تستمر في تجاهل هذه الأمة التي كانت شريكًا لها في محاربة الإرهاب، وفي حماية القيم الغربية نفسها.
فأين الاعتذار عن المجازر؟ عن استخدام الكيماوي؟ عن تغيير الديموغرافيا؟ عن القمع الممنهج؟ أليس المفترض أن تبدأ العدالة من الكرد؟ أن تعود الأرض لأصحابها؟ أن تُنهى حالة الإنكار المزدوج؟ أليس الكرد هم الضحية الأكثر وضوحاً؟
صفعة في وجه الخطاب الأميركي المتأخر
هل باراك ضد سايكس-بيكو فعلًا؟ أم أن حديثه ليس أكثر من تدوير جديد للخراب، وتجميل ناعم لسلسلة مظالم لا تزال قائمة؟ ما قاله لا يحمل أي مشروع حقيقي، لا اعتذار صريح، لا تعويض، لا خريطة إنصاف. مجرد كلماتٍ مصقولة، لإعادة ترتيب ركام لا نية لتفكيكه.
وسؤالنا يبقى:
سيد باراك، هل تجرؤ على إصلاح ما أفسده الغرب؟ أم أنك ببساطة تسلّم الشعوب المغدورة إلى الذاكرة الباردة؟ حين تصبح “معارضة التدخل” غطاءً نظريًا لتبرير التدخل نفسه، يفقد الخطاب الأخلاقي معناه، ويصبح سكينًا آخر في ظهر الضحية. والطوباويون لا يحررون أحداً… بل يرممون الأقفاص بأسلوب أنيق!
ما بعد الاعتذار المزيّف
إن ترامب والخرائط القديمة لا يزالان هنا، لم يتغير شيء. فهل يكون ما قاله باراك خدعة جديدة؟ لماذا لا يقول للكرد بكل وضوح: نعم، لقد أخطأنا، وسنصحّح خطأنا؟ الاعتراف دون اعتذار تكرارٌ للجريمة، والتنديد دون تعويض استمرارٌ للخذلان. وما باراك سوى ساعي بريد متأخر، يحمل رسالة بلا دواء، في يد مشغولة بالمجاملات، والأخرى مكبّلة بالتواطؤ.
أين الكرد من خطاب ما بعد سايكس-بيكو؟
لماذا لا يزال الكرد خارج كل معادلة؟ بلا وطن، بلا خريطة، بلا حق؟ هل إنهاء التدخل يعني تركهم مشردين بلا أمل؟
بين سايكس-بيكو وكردستان، تقف أمريكا على الحافة، تلوّح بالأخلاق، لكنها لا تفتح الباب!